أفلامه اتسمت بواقعية شديدة.. ويمثل جيلاً كاملاً
«كابتن أميركا» يتصدى للمـؤامرات السياسية خارج أسوار «عالم مارفل»
تتميز أفلام كابتن أميركا بخيال جامح، قد تجعل البعض ينصرف عنها لأنها حسب رأيهم: «لا تمت للواقع بصلة»، ونجد الكثيرين من هذه الشريحة، خصوصاً الجمهور العربي، يتناول هذه الأفلام بسطحية بالغة، حيث إن كل همّه سرعة الحركة ومشاهد القتال والمؤثرات الخاصة بالطبع، وهو يعلم أن الكابتن سينتصر في النهاية. نعم ذلك صحيح؛ لكن كابتن أميركا ليس المتحولين أو أفلام Transformers، حيث نشاهد روبوتات حديدية تتصارع، ولا يوجد سياق متين للقصة، وكل الفيلم معارك تسبب صداعاً، ولا يخرج المشاهد منها بشيء.
كابتن أميركا يكاد يتفرّد على ساحة عالم مارفل (لا ينافسه سوى آيرون مان)، وهو ليس مجرد بطل خارق، بل إنسان يعيش حالة تناقض يحاول التأقلم معها، ويمثل جيلاً كاملاً، وهو أحد رموز الثقافة الشعبية الأميركية. وفي هذه المساحة؛ سنتناول كابتن أميركا من خلال الجزء الثاني من سلسلته الخاصة، وهو «كابتن أميركا: وينتر سولجر» أو (جندي الشتاء)؛ نظراً لأنه الفيلم الذي يكشف الكثير من جوانب هذه الشخصية، ويضعها في سياق سياسي وتاريخي واقعي، هو الأعمق حتى اليوم.
|
خيار الاسم تخوّف منتجو الفيلم من عدم تقبّل الجمهور اسم الفيلم الأول كابتن أميركا: فيرست آفنجر «المنتقم الأول»، وتركوا للموزعين حول العالم خيار الاكتفاء بالاسم الأول وإلغاء الثاني، والسبب أن سياق الفيلم عن قصة بطل أميركي، يريد المشاركة في الحرب العالمية الثانية، لم يكن متوافقاً مع الرأي العام العالمي المناهض لتوجهات السياسة الأميركية، في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن المتمثلة في غزو العراق، وما أحدثه من جدل وانقسام حول العالم، إلا أن الموزعين أبقوا على الاسم، مشيرين إلى التحولات الجديدة في سياسة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما. لم يخلُ الفيلم من إشارات لتكريم شخصية سابقة يؤدي ممثلها دوراً فيه، مثلاً لقطة قبر شخصية نيك فيوري (ساميول إل جاكسون)، الذي أعد بغرض خداع أعدائه محفورة على لحده الكلمات التي كان يرددها القاتل المأجور جولز (جاكسون أيضاً) في فيلم Pulp Fiction، قبل أن يقتل ضحاياه.
|
«جندي الشتاء»
بداية، فإن اسم الفيلم الفرعي «جندي الشتاء» مستمد في الحقيقة من عام 1971، خلال جلسات الاستماع التي حضرها جون كيري، وزير الخارجية الأميركي الحالي في إدارة الرئيس باراك أوباما. كيري وقتها كان جندياً في فيتنام، وشكل تجمعاً من جنود أميركيين مناهضين لتلك الحرب، عادوا من هناك بفكر مختلف عن ذلك الذي ذهبوا به، حيث أشار كيري في جلسات الاستماع أن مجموعته عارضت حرب فيتنام، لأنها خرق فاضح للمبادئ التي نشؤوا عليها، وإن تلك الحرب حولت الكثير من الجنود إلى مجرمين تسببوا في مقتل أبرياء. كيري نفسه تلاعب بالمصطلح الذي ساد في حقبة الثورة الأميركية ضد المستعمر الإنجليزي وقلبه (كان المصطلح الأصلي جندي الصيف، وأطلقه الأب المؤسس توم بين على الجنود المتحلين بالمشاعر الوطنية، عندما تكون الظروف ملائمة، ويهربون في أوقات الأزمات)، فحوّله كيري إلى «جندي الشتاء» وقلب معناه، واستخدمه في السياق السياسي السائد أول السبعينات. وعندما وضع مؤلفو كابتن أميركا قصته تلاعبوا بالظروف لتتسق مع المصطلح، ويصبح مناسباً للشخصيتين معاً: ستيف روجرز الملقب بكابتن أميركا (كريس إيفانز)، وشخصية باكي بارنز الملقب بجندي الشتاء (سباستيان ستان). الأول رجل مؤمن بمبادئ بلده (وطني) في وقت السلم، لكنه يواجه تحديات (يرمز للتحديات بالشتاء في حالة كابتن أميركا فقط)، تختبر إيمانه بمبادئه طوال أحداث الفيلم، فهو يثبت أنه جندي الشتاء الذي يتمسك بمبادئه مهما كانت الظروف.
أما بالنسبة للثاني، فعليه أن يواجه نفسه بعد عملية غسل الدماغ، التي تعرض لها (أحداث أفلام كابتن أميركا «جندي الشتاء» 2014 و«حرب أهلية» 2016)، هل يستسلم لحالة تأنيب الضمير بعد جرائمه التي أجبر على ارتكابها عندما كان في حالة الغيبوبة الفكرية؛ وبالتالي يكون جندي صيف ويتراجع عن مهمته؟ بارنز يرفض ذلك، ويتحدى الظروف ليصلح ما أجبر على تدميره، وبالتالي يكون مثل جنود الشتاء الذين قصدهم كيري في اعترافاته بالإشارة إلى مجموعته المناهضة للحرب، فهو لا يتناسى ماضيه، لكن ذلك الماضي لا يمثل أخلاقياته، فيقرر إعادة الاعتبار لنفسه ووطنه، ويقرر التعاون مع كابتن أميركا للدفاع عن بلده.
منظمتان تتحكمان بالعالم
هناك منظمتان في أفلام كابتن أميركا تتحكمان في العالم: الأولى هي شيلد وترمز لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، ومقابلها منظمة هايدرا وترمز للشر عموماً. في فيلم جندي الشتاء «وينتر سولجر» تتعرض منظمة شيلد لاختراق من قبل منظمة هايدرا المرتبطة بالنازيين (الفيلم يلمح ولا يشير مباشرة حسب السياق السياسي للقصص المصورة)، ونرى ذلك في مشهد آرمن زولا، العالم الذي تمكن من اختراق حواسيب شيلد وبرمجها لتقتل كل من يعيق أهداف منظمة هايدرا. عملية الاختراق في الفيلم خيالية، لكنه يلمح إلى عملية بيبر كليب التي جلبت الـCIA بموجبها أكثر من 1500 من علماء النازية عام 1945، ووظفتهم لصالح واشنطن بهدف منع الاتحاد السوفييتي آنذاك من الاستفادة منهم. أما المشهد برمته؛ فيشير إلى مشهد من فيلم ألعاب حربية أو War Games عام 1983، الذي يصور عملية اختراق لحاسوب يحوي أسراراً عسكرية؛ ما أثار ضجة آنذاك، وأجبر إدارة الرئيس الراحل رونالد ريغان على مراجعة سياستها الأمنية. هايدرا تستخدم شعار النازية والسوفييت وكل الأنظمة البوليسية، التي كانت سائدة في أوروبا الشرقية ومختلف دول العالم، وهو: خلق الفوضى بهدف إجبار الإنسانية على التنازل عن حريتها مقابل الأمن.
كذلك من النقاط المثيرة للاهتمام في فيلم وينتر سولجر تركيزه على التباين في أسلوب التفكير بين جيل الأربعينات والجيل الحالي في المجتمع الأميركي، فمثلاً، يستفيق كابتن أميركا (وهو من جيل الأربعينات) من غيبوبة 70 عاماً، ليجد نفسه في عالم اليوم، حيث يجد صعوبة بالغة في التأقلم مع المتغيرات التي طرأت، وأبرزها مجاراة تفكير أبناء الجيل الحالي متمثلاً في شخصية ناتاشا رومانوف الملقبة بلاك ويدو (سكارليت جوهانسن).
العالم تغيّر
|
1971 العام الذي استمد منه اسم الفيلم الفرعي «جندي الشتاء»، من خلال جلسات الاستماع عن حرب فيتنام. |
شخصية كابتن أميركا تتميز بالمثالية العالية والالتزام الشديد بالقيم والمبادئ والتركيز على الحقيقة والنزاهة؛ لأنه متأثر بمبادئ جيله في الأربعينات، وهم الذين سعوا لتحرير أوروبا في الحرب العالمية الثانية، رغم بعد الحرب عنهم. لكن بعد الحرب العالمية الثانية طرأت تغييرات جذرية كبيرة أجبرت كثيرين من الأميركيين على التخلي عن تلك المبادئ، بعد أن أفاقوا على حقائق سياسية صادمة؛ مثل فضيحة ووترغيت عام 1973 وحرب فيتنام (1955-1975) وهي أحداث أسهمت بشدة في تحويل المزاج الأميركي العام إلى حالة من التشاؤم، وجعله متشككاً في نيات السلطة.
رومانوف جاسوسة تعمل مع شيلد تمثل الجيل الحالي، حيث إنها واقعية أكثر، ولا تمانع في الكذب لو اضطرت ولا تتقيد بالقوانين، ونرى ذلك من خلال مشهد السفينة، حيث تنفذ عملية سرية، استولت من خلالها على معلومات من حاسوب السفينة، جعلت كابتن أميركا يشك في أن لديها أجندة خاصة. هذا التباين في أسلوب التفكير بين بطل الأمس، وجاسوس اليوم، نجده في حوار بين قائد منظمة شيلد نيك فيوري (ساميول إل جاكسون) مع كابتن أميركا، نفهم من خلاله أن فيوري تعمد اختيار رومانوف لتلك المهمة، لأن كابتن أميركا سيرفض تنفيذها وسيشكك في نيات شيلد بسبب خلفيته ومبادئه التي نشأ عليها. فيوري يشرح للكابتن كيف أن العالم تغيّر، وليس كما كان بسيطاً في الأربعينات. ولازلنا في السياق نفسه، حيث نلاحظ علاقة الصداقة المتينة بين كابتن أميركا وباكي بارنز، ورفض الأول التخلي عن الثاني، حتى بعد عملية غسل دماغه، تعود إلى خلفية الكابتن الذي نشأ عليها في الأربعينات، حيث أسلوب الحياة البسيط الذي كان سائداً في أميركا تلك الفترة، وهذه العلاقة تشكل دافعاً للشخصية لتستمر حتى الفيلم الثالث. السبب أن بارنز هو الرابط الوحيد بين الكابتن والبيئة التي يعرفها في الأربعينات.
موضوعات واقعية
تزامنت عملية كتابة نص الفيلم مع أحداث احتلت عناوين الصحف من عام 2011 إلى 2012، وكان أبرزها نشر البرقيات الدبلوماسية السرية الأميركية على الإنترنت، التي سرّبها محلل المعلومات السابق إدوارد سنودن، والمسؤول عن أكبر اختراق استخباراتي في تاريخ أميركا الحديث، وأيضاً أخبار ضربات الطائرات دون طيار، والهجمات الاستباقية على أهداف خفية في باكستان وأفغانستان واليمن، ناهيك عن موضوع انتهاك الحريات المدنية المرتبط بتجسس الدولة على مواطنيها؛ وهو موضوع متجدد من أيام كلينتون في التسعينات إلى اليوم.
كل هذه الموضوعات الراهنة أعطت الفيلم واقعية شديدة تميز بها عن كل أفلام الصنف، نضيف إلى ذلك قرار المخرجين آنثوني وجو روسو تصوير الفيلم بأسلوب أفلام الأكشن الحديثة، وذلك باستخدام ممثلين مجازفين، وتقليل الاعتماد على الكمبيوتر في تلك المشاهد قدر الإمكان. ونقطة أخرى نضعها في السياق ذاته، حيث إن فيلم كابتن أميركا الأول يعد عملاً عن الحرب العالمية الثانية على شكل فيلم أبطال خارقين، والثاني «جندي الشتاء» فيلم جاسوسي في سياق أفلام الأبطال الخارقين، وهنا عمد المنتجون إلى محاكاة هيكل نص أشهر فيلم جاسوسي في السبعينات Three Days of the Condor عام 1975، وجلب بطل ذلك الفيلم روبرت ردفورد ليتقمص شخصية الشرير أليكساندر بيرس في وينتر سولجر. الفيلمان يتشابهان من ناحية أن بطلهما لا يدرك أنه وسط مؤامرة إلا عند انتصاف الفيلم.
وقد شكلت حقبة السبعينات بيئة خصبة لإنتاج أفلام الجاسوسية والمؤامرات كالمذكور أعلاه؛ وفيلم The Parallax View في 1974 وThe Conversation و«كل رجال الرئيس» في 1976، حيث كان الجمهور الأميركي آنذاك لايزال يعيش أجواء المثالية، فكانت تلك الأفلام بمثابة الصدمة له، بعكس جمهور اليوم الذي اعتاد التشاؤم الذي انتقل إليه تدريجياً عبر جيلي السبعينات والثمانينات، وعدم الوثوق في السياسيين. إجمالاً، جمهور السبعينات كان مثل كابتن أميركا في أفلامه اليوم، فهو رجل من الأربعينات، يعيش واقعاً سياسياً جديداً صادماً بالكاد يستطيع استيعابه، وهذا العامل أوجد علاقة تعاطف بين الشخصية والجمهور.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
