12 سنة لتصوير فيلم.. ويوسا تقدم جديدها
الصبا والطفولة المستلبة في «برلين السينمائي»
البنية الواقعية للفيلم تأتي في سياق مأخوذ برصد العلاقات العائلية ومصائرها التي تأتي الدراما فيها مصاغة وفق إملاءات حياتية. من المصدر
لطالما كان الزمن الواقعي وزمن الفيلم الافتراضي شاغلاً إبداعياً وجمالياً مؤرقاً، وحيوات كاملة تختزل في ساعات، وعصوراً وحقباً تتكثف في تلك الساعات، إنها من معجزات الفن، وقدراته الخارقة على جعل المشاهد يعيش حياته وآلاف الحيوات.
إنها مقدمة ضرورية جداً طالما أننا سنتحدث هنا عن فيلم المخرج الأميركي ريتشارد لينكلاتر «صبا» لا بل إنه سيأخذنا من خلال ما قدمه في هذا الفيلم الذي عُرض، أول من أمس، ضمن مسابقة الدورة الـ64 من برلين السينمائي، إلى محاولة مدهشة لمنح الزمن الافتراضي للفيلم مجاورة جديدة للزمن الواقعي، ولتوضيح ذلك فإن الفيلم جرى تصويره على مدى 12 سنة ليسرد لنا حياة الفتى ماسون من عمر السابعة وصولاً إلى الـ18، وليبدأ تصوير هذا الفيلم في عام 2002، أي أن إلير كولترن الذي جسد شخصية ماسون كان في السابعة من العمر حين بدأ تصوير الفيلم وهو الآن في الـ18 حقيقة، ونحن نشهد تنقلاته العمرية على مدى تلك السنوات من عمره هو، وهذا يمتد ليشمل جميع شخصيات الفيلم، وبالتالي فإن التأسيس المجاور للفيلم الروائي الذي نشاهده يحمل آليات تسجيلية أيضاً، آليات لا نقع عليها في الفيلم نفسه بل في إعداده.
إنه فيلم مدهش علي أن أؤكد على هذه الصفة من جديد، وهذا التوصيف آت من أدوات غير مدهشة أبداً، وفي هذه المعادلة بين أن تكون مدهشاً من دون أن تكون فاقعة مسببات تلك الدهشة ما يجعله فيلماً استثنائياً، فنحن أمام سرد لا يتطلع إلا أن يكون محاكاة للحياة كما هي، ولعل البنية الواقعية للفيلم لا تأتي إلا في سياق مأخوذ برصد ماهية حياة صبي أميركي، وبالتالي العلاقات العائلية ومصائرها التي تأتي الدراما فيها مصاغة وفق املاءات حياتية، فالخط الدرامي يصعد وينزل وفق ذلك، وما من أية منعطفات أو منعرجات حادة، كما أنه خط سردي واحد يمضي وعينه على الحياة كما هي، فما من ذروة درامية مفصلية، والصياغة أيضاً كلاسيكية تماماً، ما من «فلاش باك» ولا راوٍ، فنحن نقع ومن اللقطة الأولى على ماسون وهو ممدد على العشب بانتظار أمه لتأخذه من مدرسته، ومن ثم تمضي حياة هذا الصبي مع أخته، وأمه وأبيه المطلقين، ومن ثم تنقلاته من ولاية إلى أخرى وفق زواج أمه من رجلين وطلاقها منهما.
وفي هذا السياق ستكون الأمور الحياتية ومتغيراتها هما الرهان الرئيس للفيلم، ماسون يكبر وكل ما يتغير حوله وفيه آت من حياته، التي هي في النهاية الحياة الأميركية المعاصرة، اجتماعياً واقتصادياً، ومن خلال رصد الفيلم الطبقة الوسطى وعلاقتها الاجتماعية ومآزقها، إضافة إلى الخلفية السياسية المتمثلة بفترة رئاسة بوش وغزو العراق، بوش الذي يكرهه والد ماسون، ويدعم أوباما بكل ما في مقدوره أثناء حملته الانتخابية. كل ذلك مصاغ بحنكة تجعلنا نعيش حياة مترامية نقع فيها على الشخصيات في كل تجلياتها ومتغيراتها، كما لو أننا عشنا حياة كاملة بأقل من ثلاث ساعات. ولوضع الفيلم في سياقه، فإنه لا محالة يضعنا حيال انعطافة جديدة في السينما الأميركية المستقلة، التي قدمت الكثير تجريبياً.
وإن كان لنا أن نضع فتى آخر مقابل ماسون فإنه جاك في فيلم الألماني إدوارد برغر «جاك» Jack، وهنا أيضاً يأتي الفيلم مشغولاً بواقعية لا تشوش عليها اقحامات درامية تأخذ الفيلم إلى تشويق أو إثارة مفتعلين، بل الدراما هنا هي دراما هذا الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة من العمر، وهو سيبقى في هذا العمر وليس كما ماسون في فيلم «صبا» وهو يتدبر حياته بنفسه ويعتني بأخيه الصغير مانويل، فأمه تعمل في النهار وفي الليل تعيش حياة صاخبة، وهو لا يعرف من يكون والده، بالتالي فإن جاك يقوم بكل شيء بنفسه، فالفيلم، ومن اللقطة الأولى الثابتة على جاك ومانويل نائمين، يقول لنا ذلك، حيث سيستيقظ جاك ويوقظ أخاه ويعد له الفطور ويمضيان إلى المدرسة.
تصاعدية الأحداث في حياة جاك مصاغة من اللحظة الأولى، وهي قادمة من الأم، ونضاله المرير من أول الفيلم إلى آخره لأن يعيش معها، ويبقى إلى جانب أخيه يرعاه بمنتهى المسؤولية، لكن أمه سرعان ما ستضعه في مأوى، وليقوم بالهرب منه، والعيش في الشوارع كون أمه تكون مختفية لا تجيب على الهاتف وهي أيضاً غير موجودة في البيت. رحلة جاك وبرفقته مانويل الذي يستعيده وقد أودعته أمه عند أحد ما، ستكون محمّلة بمرارة طفلين ينامان في الشوارع وطرق جاك في التحايل على تلك الحياة.
القسوة التي تحاصر جاك لن تجعله كما الفتى في فيلم فرانسوا تريفو «400 ضربة»، ولا أن يصل بالأب الذي لا وجود له في حياة جاك أن يبيعه مثلاً كما في «الطفل» للأخوين ديردن، إذ إن الأم من تتمسك بالطفل الرضيع في ذلك الفيلم وإن كان الأب مشرداً وعاطلاً عن العمل، هنا جاك الجميل والواثق بما يقوم به، وقد منح الأمومة كل الفرص التي بمقدوره أن يمنحها إياها، وحين يتأكد من زيف ما تبادله إياه أمه من مشاعر يعود باختياره هو إلى المأوى لكن هذه المرة برفقة مانويل كما هي نهاية الفيلم التي تبقى مفتوحة.
«في الأعالي»

يتأسس فيلم يوسا على مفردات في الحاضر الافتراضي للفيلم موجودة في ماضيه، والحدث الأساسي سيكون قادماً من حادث مأساوي، فحين تترك نانا ولديها في السيارة وتدخل في غابة لتمارس معجزاتها للمرة الأولى، يقوم ولدها الأكبر بقيادة السيارة رفقة أخيه الصغير، وليدخل في بحيرة متجمدة، ولتغرق السيارة فينجو الأكبر ويموت الأصغر، وحينها تنقلب علاقة نانا بابنها الناجي تاركة إياه في رعاية جده.
كل ما تقدم يأتي في سياق بطيء، وإيقاع يأخذ الوقت كاملاً ليلتقي إيفان أمه برفقة المخرجة، الذي لن يكون إلا الابن الناجي والمهجور من قبل أمه أيضاً، والذي لم تستطع مواصلة أمومتها تجاهه بعد أن صارت تعتبره سبباً في وفاة أخيه. «في الأعالي» مأخوذ تماماً بالروحنة، بالنسور التي يربيها إيفان، بهشاشة الأرض الجليدية التي تتشقق حين تطأها أقدام ثقيلة، وهي جاهزة بالمياه المتجمد تحتها لتحقيق الكارثة التي تجاورها المعجزات العاجزة عن إيقافها.
حياة كاملة

الأمور الحياتية ومتغيراتها هما الرهان الرئيس للفيلم، ماسون يكبر وكل ما يتغير حوله وفيه آت من حياته، التي هي في النهاية الحياة الأميركية المعاصرة، اجتماعياً واقتصادياً، ومن خلال رصد الفيلم الطبقة الوسطى وعلاقتها الاجتماعية ومآزقها، إضافة إلى الخلفية السياسية المتمثلة بفترة رئاسة بوش وغزو العراق، بوش الذي يكرهه والد ماسون، ويدعم أوباما بكل ما في مقدوره أثناء حملته الانتخابية. كل ذلك مصاغ بحنكة تجعلنا نعيش حياة مترامية نقع فيها على الشخصيات في كل تجلياتها ومتغيراتها، كما لو أننا عشنا حياة كاملة بأقل من ثلاث ساعات. ولوضع الفيلم في سياقه، فإنه لا محالة يضعنا حيال انعطافة جديدة في السينما الأميركية المستقلة، التي قدمت الكثير تجريبياً.
صاحبة «حليب الأسى»
المخرجة البيروفية كلوديا يوسا صاحبة «حليب الأسى»، الفائز بجائزة الدب الذهبي في برلين السينمائي 2009، قدمت جديدها «في الأعالي» Aloft، وهنا لن يكون لحليب الأسى أن يمس شخصية الفيلم الرئيسة نانا (جنيفر كونلي) مع أن هذه الأخيرة ستصنع المعجزات المشرقة التي ستكون متلازمة مع مأساة سوداء. إنه فيلم متأسس على خطين زمنيين، الماضي والحاضر، الأول تحتله نانا وولداها، بينما نتابع حياة ايفان (غليان ميرفي) المتزوج وله ولد ويربي النسور، ومخرجة أفلام وثائقية (ميلاني لوران) تأتي لزيارة إيفان لتسجل معه وليكون إيفان هو ابنها الذي لم يقع عليها منذ كان صغيراً. يتحرك الخطان الدراميان للفيلم بالتناوب بينهما، وفي القرية هناك من يصنع المعجزات، وهو رجل يعتنق «الزن»، وليكتشف هذا الرجل بالمصادفة أن نانا بمقدورها القيام بذلك.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news