الأطفال حين يصيرون شهوداً على الموت والدمار
«زوزو».. الحرب لا تترك الذاكرة
الطفل عندما يكون هو الشاهد على الحرب وعلى الموت وعلى الدمار، يتخيل للبعض أن لعبة قد تلهيه أو تنسيه ما كان يحدث أمامه، لكن الحقيقة أن ذاكرتهم الطرية لا تتوقف مع توقف الحرب، فالأثر النفسي لا ينتهي مع هؤلاء الأطفال ما عاشوا ولن تتوقف لا سلباً ولا إيجاباً في حياتهم، والتاريخ شاهد على ذلك، في روايات على لسان أطفال الحروب، فمن ينسى الطفلة الفلسطينية التي كانت حانقة على الحرب الأخيرة على غزة لأنها هدمت بيتها وتسببت في إضاعة «سوارها وحلقها»، ومن ينسى المشهد الذي تناولته وسائل الإعلام، أخيراً، حول الشقيقتين اللتين تهددان الجنود «الإسرائيليين» بفضحهم عبر وسائل الإعلام لأنهم اعتقلوا أمهما أمامهما، ومن سينسى الروايات الأكثر قرباً لأيامنا لأطفال سوريين كثر، بدأت مع خلو مقاعد الدراسة من زملاء راحوا ضحية القصف، الذي أودى بحياتهم ولم تنته في فيديو نشر على «يوتيوب»، أخيراً، لطفلة لم تتجاوز الثالثة من عمرها، وهي تحلل الوضع السوري لتنهي التحليل «إذا وقعنا ما عاد فينا نقوم».
|
طبيعة غالبية أفلام المخرج جوزيف فارس ذات طابع كوميدي، تمثلت في وضع هذه النكهة في شخصية الجد في الفيلم، فهو الرجل الظاعن في السن المعتز بقوته التي لم تروضها السنين، المتفاخر ببطولاته أمام حفيده، المتمسك بعروبته وبسويديته معا في صيغة لا يفهمها الا هو، استطاع تجسيدها بطبيعية الفنان الياس غيرجي دون تكلف. |
مع كل تلك المشاهد الحقيقية، لم يكن مصادفة ربما أن تقدم شركة «اتصالات» في الدولة ضمن عروض أفلامها المنزلية فيلم «زوزو» للمخرج السويدي من أصل لبناني جوزيف فارس، والذي أنتج في عام 2005، من بطولة الطفل عماد كريدي، كارمن لبس، وإلياس غيرجي. هو فيلم ليس عن الحرب اللبنانية الأهلية، بقدر ما هو محاولة اقتراب من مشاعر من عايش الحرب من خلال الطفل (زوزو) الذي يحمل عنوان الفيلم.
من الممكن أن تكون البداية الحقيقية للفيلم غير منوطة بمشاهد الفيلم الأولية التي تقترب من عائلة لبنانية تعيش في بيروت الشرقية، تتعرض لسؤال يومي من قبل (زوزو) أصغر أفرادها «طلعت الفيزا للسويد؟»، فالحبكة ظهرت بالفعل بعد أن أيقظت الأم ابنها (زوزو) لتقول له «سنذهب الى السويد اليوم»، هذا المشهد هو بداية تكوين الذاكرة تجاه الحرب في عقل (زوزو) الصغير، ففي الوقت الذي ذهب لشراء الماء قبل السفر ينفجر منزله ويفقد جميع عائلته باستثناء أخيه الذي يحاول تغطية عيون شقيقه الصغير بألا يشاهد منظر موت عائلته دون جدوى، واقترابه من جثة والده لأخذ حقيبة جوازات السفر وأذونات الدخول الى السويد التي يعيش فيها الجد والجدة.
وللعودة الى تفاصيل الفيلم من بدايته، والتي تدور في عام 1987 في ذروة الحرب اللبنانية الأهلية، يسلط المخرج كاميرته على الطفل (زوزو) أينما ذهب، في مدرسته، مع أصدقائه، وسط عائلته، في الشارع وحتى الملجأ، لا يخلو مشهد تقريباً من وجوده، هو الطفل العادي في أحلامه وشقاوته، ومشاجرته المفتعلة مع صديق يحب شقيقة صديق ثالث، هو الذي لا تهمه الأخبار التي يتسمر جميع أفراد عائلته أمامها، لأنها تلهيهم عنه وعن موهبته في صنع تماثيل من خشب، هو السائل دوماً عن السويد ومتى الذهاب اليها، فقد سئم مناظر البنايات المهدمة، حسب ما قاله لأصدقائه، واصفاً جمال السويد من صور أرسلها الجد والجدة، هو طفل حقيقي قادرعلى حماية صوص وبناء حوار خيالي معه، ولهذا الصوص حكاية أخرى.
الانفجار الذي أودى بحياة عائلته وفرق بينه وبين شقيقه الذي لم يعلم المشاهد هل مات أو مازال حياً، لكن أحداث فوضى الحرب تحسن الموضوع لصالح الموت، يظل (زوزو) الذي خبأه شقيقه في حاوية قمامه، مع صديقه «الصوص» الذي يتحاور معه ويشجعه على الذهاب إلى السويد، ما دام جوازالسفر معها وتأشيرة الدخول، خصوصاً أن الحلم الذي زاره كان عبارة عن ضوء كالشمس فيه صوت أمه تقول له «اذهب الى السويد لا تخاف أنا معك»، هذا الضوء يزوره مرة ثانية في السويد في أولى عقبات اندماجه في المجتمع الجديد كلياً عليه، ثقافياً واجتماعياً، وحتى من ناحية الشكل.
تبدأ الخطوات الأولى لـ(زوزو) لوحده في مكان مملوء برائحة الموت، هو و«صوصه» الصغير رفيق دربه، ومشجعه في تعدي الصعاب، يجوع، يقف أمام مخبز يطلب «منقوشة»، لكنه لا يحمل النقود، فيصرخ في وجهه البائع، لتتدخل ابنة صاحب المخبز، وتأمره بإعطاء «المنقوشة» لـ(زوزو)، هذه الطفلة الصغيرة التي ستكمل حلماً في رأس زوزو في السويد هي ببساطة العودة إلى الأصل إلى الوطن مهما ابتعدنا عنه، يعيش معها أجمل اللحظات الطفولية بين الأشجار والعصافير، إلى ان تقرر أن تسافر معه بقرار طفولي وكأن المطار والقوانين ستفرش لهما الورد، يهربان معاً، إلى أن يقبض عليهما أمن المطار التابع للميليشيات، فيظهروالد الطفلة الذي يهم بضربها، لتظهر معه أولى ردات تأثير الحرب على نفسية (زوزو) بأن يهجم عليه ويضربه بكل ما أوتي من قهر وظلم وعذاب وفقدان.
بعد مساعدة ضابط في المطار لـ(زوزو) في السفر وإجراءات المغادرة، خصوصاً انه يحمل جميع جوازات سفر عائلته، الأمر الذي يثير الاستغراب فيتم تحويله إلى التحقيق، كل هذا يتعرض له هذا الطفل، وبكل سذاجة، تقرر الجدة عدم ارتداء اللون الأسود حداداً على ابنها وعائلته كي لا يفهم (زوزو) حقيقة الذي حدث، فهما لا يعلمان أن من عاش الحرب ليس بالسهولة ان تمحى بمجرد عدم ارتداء الاسود حداداً. الحرب تعيش فيه، تظهر في كوابيسه التي تزوره ليلاً وفي يقظته، فمجرد أن يمر أمام مشهد عنيف يتمثل بمشاجرة بين طلاب مدرسة، يتحول المشهد فوراً الى مشهد من الحرب.
في السويد والعلاقة بين الطفل وجده، خصوصاً، تبدأ بمحاولة الجد زرع القيم العربية في قلبه الصغير، وتعليمه الشجاعة ومواجهة العنف بعنف، وهذا لا يدخل ببال الصغير، وهنا المواجهة الفكرية بين جيلين، وبالفعل يتعرض «زوزو» لاضطهاد من قبل زملائه، خصوصاً أنه يحب سلَطة التفاح، المستهجنة سويدياً، يحاول أن يقول لهم كيف تصنع فيزداد الضحك. التفاصيل في المدرسة هي أولى خطوات محاولة الاندماج مع مجتمع جديد كلياً، هو الآتي من كارثة لا تعني كثيراً لمن لم يعايشها، فلم يسأله أحد عن سبب الحزن الدائم في عينيه، ومن الواضح أن المنبوذين يجتمعون سوية، فلم يمِل (زوزو) سوى لزميل له مضطهد هو الآخر، لكن بسبب ضعف شخصيته التي تسبب بها والده (السكير)، وهنا المدخل لـ(زوزو) لمعرفة معاناة آخرين، لكن هذه المرة ليس من جراء الحروب.
أولى خطوات الإندماج الفعلية بالنسبة لـ(زوزو) كانت بإعجاب زميله بالممحاة التي يقتنيها، وبردة فعل لها علاقة بالكرم العربي ربما يقدمها (زوزو) له، مع استغراب من الزميل، الذي يقول لزميل آخر، وهكذا حتى تصبح أشياء (زوزو) للجميع، ويصبح لديه شعبية، لكنها مكلفة اوصلته إلى حد سرقة أشياء من المكتبة تكشفها المعلمة، وهنا النوبة الثانية التي لها علاقة بالحرب وأثرها أيضاً، بانفعال (زوزو) وقلب الطاولة على المعلمة والهرب.
يجلس (زوزو) بعيداً عن عيون كل من في المدرسة، وتجلس الى جانبه (حمامة) فيتذكر (صوصه) ويعتقد لوهلة أنه هو، فيبدأ الحديث معها، لكنها لا تجيبه، الحديث هذه المرة باللغة السويدية، فيحاول أن يسألها اذا كانت عربية، فلا تجيب، هنا ينسلخ الطفل (زوزو) عن خياله ليقرر العيش في الواقع مهما كان صعباً، لن يكون أصعب من مشهد جثة والدته.
بعيداً عن المدرسة وقريباً من علاقة الجد بحفيده المليئة بالحب والكوميديا، يتعرض الجد لكسر في قدميه، فينهار (زوزو) مرة أخرى من الخوف من فكرة الفقدان، لكن جده يعيش، لكن لم يعد قوياً كما كان، ويدرك (زوزو) أن العنف من الممكن مجابهته بالعقل أو بالتجاهل، ويجرب هذا مع صديقه حين يتعرضان لمحاولة استفزاز من قبل طلاب أكبر منهما سناً، يقترب مشهد الانفجار منه متمثلاً دوماً بالعودة الى الوراء الى لبنان مع أمه التي تأخذه من يده لحمايته من وابل الرصاص، ليوقفها في مشهد وهمي «ماما هون ما في شي وصوت القنابل مش حقيقي، ما عاد تخافي» فيعود مشهد المجابهة الحقيقية، ليتأبط صديقه ويقرر تجاهل العنف، فينتصر بالفعل.
ليلحقه المشهد الأخير في الفيلم، فـ(زوزو) وصديقه السويدي يحاولان اصطياد السمك في حضرة الجد والجدة الذين يلعبان الشدة، حوار طفولي بين الصغيرين بمحاولة تنبؤ عدد السمك الموجود في البحر، وضحكة مكبوتة تخرج الى الملأ لحوار غير مضحك بقدر ما هو حاجة كان ينتظرها (زوزو) فقط ليضحك.
هوامش

•• القصة من تأليف مخرج العمل
جوزيف فارس.
•• عرض في مهرجان «دبي السينمائي» ضمن برنامج «ليالي عربية» في عام 2006.
•• تكلف قرابة سبعة ملايين دولار، وتم تصويره بين بيروت والسويد.
•• إنتاج سويدي خالص من مؤسسة انّا أنتوني الممثلة عن الحكومة السويدية.
•• مثل الفيلم السويد عن أفضل فيلم أجنبي لأوسكار 2006.
•• مدته 103 دقائق.
•• موسيقى آدم نوردن.
حكاية
الطفل عماد كريدي بطل فيلم «زوزو» استطاع أن يتقن اللغة السويدية، قبل البدء بالعمل بأسبوعين، وعن هذا صرح مخرج العمل «جوزيف فارس» سابقاً انه لم يجد كريدي لما أقدم على صناعة هذا الفيلم «الفيلم يقف بكامله على شخصية (زوزو). من هنا لو لم أجد من يتقمص تلك الشخصية لما أبصر فيلمي النور»، مؤكداً «في البداية كان صعباً عليه الدور، خصوصاً أنه لم يشارك ابداً في عمل بهذا الحجم، إذ كانت له إطلالات في الإعلانات وفي أدوار تمثيلية صغيرة. لكنه سرعان ما دخل في الشخصية».
كلام صورة

الصحافية جوسلين صعب بالاشتراك مع المخرج السويدي يورغ ستوكلن صنعا أول فيلم عن الحرب «لبنان في الدوامة» عام 1975.
شاهد
فيلم «خطوة.. خطوة» هو الفيلم التسجيلي الأول للمخرجة رندا الشهال، يقدم تحليلاً سياسياً للحرب، وقد نال إعجاب النقاد، وعرض في مهرجانات عالمية عدة.
آخر عمل
فيلم «مرجلة» باللهجة العامية، والترجمة الحرفية له من السويدي «الأب»، هو آخر أعمال المخرج جوزيف فارس في فئة الأفلام الطويلة، أنتج عام 2010، وهو فيلم كوميدي مرح يقدم قصة رجل أرمل «يمثله والد المخرج الحقيقي وعمره وقتها 62 عاماً»، وعن تمسكه بالعادات العربية الشرقية في مواجهة الحداثة وتقبل الأمورالتي تتماشى مع العصر، خصوصاً في موضوع قرار ابنه التبني، لأنه لا ينجب والكذبة التي لن تمرعليه في حمل مزيف يكشف لاحقاً، وردة الفعل من قبل الأب.
سيرة
جوزيف فارس

مخرج سويدي من أصل لبناني، في الثلاثينات من عمره، غادر الى السويد وهو في عمر العاشرة، حتى ان فيلم «زوزو» يحكي جزءاً من سيرته الذاتية، ترك الدراسة وحمل الكاميرا وهو في عمر 15 عاماً، بعد أن كرس خمس سنوات من عمره في محاولة التأقلم مع المجتمع السويدي، ووجد في السينما الطريق نحو التعرف أكثر الى هذا المجتمع، في جعبته نحو 50 فيلماً قصيراً وأفلام طويلة عدة، أشهرها فيلم «يلا يلا»، كوميديا عن الحب عبر الحدود الثقافية، و«كوبس»، و«زوزو» شبه السيرة الذاتية له، و«ليو»، والفيلم الكوميدي «الأب» كترجمة حرفية للغة السويدية والمرجلة كترجمة عامية.
ضوء
تمويل الفيلم السويدي
إن سياسة الفيلم السويدي، حسب تعريفهم على موقعهم الخاص، معدّة لدعم الإنتاج والارتقاء بالأفلام الجديرة بالاهتمام وتوزيعها، ولحفظ وترويج تراث السويد السينمائي، ولضمان أن يُمثل الفيلم السويدي عالمياً.
وهي تدعم الثقافة السينمائية الإقليمية والمحليّة أيضاً، وتثري شروط العمل لمنتجات أفلام النساء. أما عن سياسة تمويل الفيلم السويدي، وغيرها من وسائل الدعم، فهي تخصص وتدار من قبل معهد الفيلم السويدي، وبلغت الإسهامات في عام 2010 نحو 379 مليون كرونة سويدية «نحو 42 مليون يورو أي 56 مليون دولار أميركي». وبموجب آخر اتفاقية فيلم سويدية دخلت حيّز التنفيذ في مطلع شهر يناير الفائت في 2013، ستستلم السينما السويدية التمويل من الحكومة وقطاع صناعة السينما وشركات التلفزيون. وتستمر الاتّفاقيّة حتّى 31 ديسمبر 2015. وتعتبر أفلام جوزيف فارس جميعها من تمويل سويدي، ومن أكثر الأفلام التي تحتفي بها السينما السويدية: أطفال الضواحي، داليكارليانس، معا، بيت الملائكة، حياتي البائسة، فاني والكسندر، الرحلة المنظمة، قصة حب سويدية، الفيرا ماديجانن وصيف بهيج.

مع و ضد

على أية حال لم يكن الأمر مصادفة، وإن كان يحمل شيئاً من الغرابة، إذ في الفيلم، وفي شكل موارب، استوحى جوزيف فارس شيئاً من سيرة طفولته، وهو في هذا سارعلى عكس مخرجين يبدأون سينماهم عادة بسيرهم الذاتية. لكن فارس عرف في الوقت نفسه كيف يقيم مسافة بين سيرته وسيرة بطله، بحيث أتى الفيلم في النهاية، كأنه إسهام في الحديث عن الكارثة التي حلت بلبنان. الصحافية والناقدة اللبنانية فيكي حبيب
تظلّ أضعف نقطة في الفيلم هي التمثيل أو الأداء، لكن هذه ليست مشكلة المخرج الرئيسة، وربما هو لا يهتم بها كثيراً حتى الحوارات بسيطة، وغير مقنعة أحياناً. لكن كل هذا لا يهم كثيراً، أمام هيمنة الصورة في المشاهد الفنتازية، والصوت في المشاهد الحربية. وأنا أشاهد الفيلم، شعرت بالعراق، الذي تركته، بقوة. كنت مثل (زوزو) بعد أن وصل إلى السويد، آمن، لكن مصدوم ومجروح، والجرح يصعب علاجه. أشباح الماضي والذكريات تطارد الحاضر والمستقبل. لقد استطاع المخرج أن يثير تساؤلات إنسانية راهنة رغم موضوع فيلمه القديم. الناقد السينمائي العراقي يوحنا دانيال.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
