المخرج الإسباني بيدرو المودوفار يتمسك بالأمل

«تكلم معها».. حديث الغيبوبة

«تكلم معها» فيلم عن الحياة في الغيبوبة. أرشيفية

الحلم والأمل والمرأة، موضوعات حاضرة بقوة في أفلام المخرج الإسباني بيدرو المودوفار الذي ينتهي حالياً من وضع اللمسات الأخيرة في فيلم «ذا بريف لافر» من بطولة بينولوب كروز. وتزامن ذلك مع اعلان جامعة غرناطة ادخال جميع أفلام المودوفار مراجع اساسية متاحة للطلاب المهتمين بصناعة الأفلام السينمائية، ما يجعل الحديث عن أهم افلامه حسب ناقدين، الذي حمل عنوان «تكلم معها»، وهو كاتب السيناريو فيه ايضاً، مناسباً في هذه المرحلة التي لا يتجاوز ألمها ووجعها سوى فسحة الأمل.

غيبوبة

قصة «تكلم معها» تدور أغلبية أحداثها في أروقة مستشفى، وتحديداً في قسم يعيش فيه الغائبون عن الوعي بما يسمى طبياً بـ«كوما». هنا الحدث وهنا الحبكة وهنا الأداء والسيناريو الذي استند إلى عبارات من الصعب ألا تعلق في ذهن المشاهد من شدة عمقها. لكن البداية تكون مع ستارة ترفع عن مسرحية صامتة، خشبة مسرح مملوءة بالكراسي، ورجل وامرأتان ترتديان ملابس النوم، مغمضتا العينين، يتحركان في المسرح بشكل مخيف تارة ومحزن تارة. وتواجها ظلماً ربما أو وجعاً متمثلاً في الرجل الذي يحاول أن يضع الكراسي حاجزاً بينه وبينهما كيلا تصلا إليه.

وفي المشهد نفسه تنتقل الكاميرا بشكل مباشر الى رجلين يجلسان الى جانب بعضهما بعضا، أحدهما لم تهدأ الدموع في عينيه، والثاني ينظر اليه مستغرباً وتواقاً لمعرفة السبب.

الى هنا نحن لم نتعرف الى الشخصيات، لكن بعد ذلك تبدأ خيوط الحبكة بالتواصل مع بعضها لتجمعهم معا في موقف آخر يستدعي هذه المرة الشجاعة التي لا ينفع معها البكاء. هذا المشهد بتفاصيله، نسمعه في المشهد التالي من الممرض «نينو»، وهو يحكيه ل«اليسيا» المصابة بالغيبوبة منذ اربع سنوات. ومن خلال الصور المعلقة بجدران الغرفة يستدرك المشاهد أن الشخصية الغائبة عن الوعي ما هي الا راقصة باليه سابقة. يتحدث «نينو» معها في التفاصيل وكل شيء، حتى إنه يصف لها النفس والخوف والفرح وكل المشاعر التي تملكته من خلال ما قدمته خشبة المسرح في تلك الليلة، ولا ينسى الحديث عن الرجل الذي بكى وكان جالساً الى جانبه.

في المشهدين السابقين تتكون شخصية «نينو» لدى المشاهد فهو الرقيق بتصرفاته حتى إن الجميع يشك في ميوله، لكن لأنه عاش مع والدته لوحدهما ورعاها طوال حياتها حتى إنه تعلم صبغ شعرها وتقليم أظافرها، تكونت لديه لمسة انثوية في طباعه. هذا الوصف الذي يتم الكشف عنه بعد منتصف أحداث الفيلم تقريباً التي تجاوزت مدته الساعتين.

إشباع بصري

المشهد التالي أو اللقطة على وجه الدقة تنحصر في الرجل الذي كان يبكي في المسرح، لكنه هذه المرة يمارس رياضته في المنزل أمام التلفاز الذي يستضيف مصارعة ثيران تدعى «ليديا» التي تتشاجر مع المذيعة لأنها حاولت اقحامها في حديث عن سبب انفصالها عن حبيبها، فتهرب «ليديا» من الاستوديو مع كلمات المذيعة الموبخة لها والمتهمة اياها بالضعف، رغم قوتها المتمثلة أمام الثيران.

ينتقل المشهد الى «ماركو» الرجل الذي يبكي دائماً اذا تعرض لموقف عاطفي، يتناول الهاتف يتحدث مع سكرتيرة الصحيفة لتنقل الى رئيس التحرير رغبته في اجراء حوار مع «ليديا» فيحصل على الموافقة فوراً، اذ هو صحافي، يبحث عن موضوعات تهم الشارع وتهمه بشكل شخصي ستكشفها الأحداث لاحقاً.

نحن أمام أربع شخصيات رئيسة تتمثل في «نينو، واليسيا، وماركو وليديا»، إضافة إلى الشخصيات الثانوية مدرسة اليسيا في معهد الباليه، ولا في شخصية حبيب ليديا السابق وغيرهما من الذين اضفوا على النص عبارات عابرة أو بمشاهد تليق بما يقدمه مخرج فيلم «كل شيء عن أمي» لالمودوفار.

يلتقي الصحافي ماركو وليديا التي ترفض اجراء الحوار معه خوفاً من التطرق الى حياتها الخاصة، لكن ما يجري في بيتها عندما أوصلها «ماركو» حين وجدت ثعبانا داخله فقتله «ماركو» لتفتح الحادثة المجال لقبول اجراء الحوار. وتمر اشهر على الحادثة ونراهما عاشقين. هي تحاول ان تنسيه حبيبته السابقة التي لا ينفك عن الحديث عنها، وهو يريدها بالفعل أن تنسيه اياها، ومع نهاية كل مشهد بينهما نراه يبكي.

نسج الخيوط

كل ما سبق عبارة عن تعريف لشخصيات الفيلم من خلال قصة كل واحد فيهم، الى أن يأتي موعد مباراة حاسمة ضد الثيران، يذهب العاشقان الى الفندق للتحضر، التفاصيل هنا حاضرة، بين مصمم بدلة «ليديا» و«ليديا» حول طريقة لبس البدلة، الاحترازات، النقشات الاسبانية العتيقة التي تحتفي بهذه الرياضة كرمز من رموز الدولة، ربطة شعرها، وسلاحها المتمثل بقطعة قماش سميكة تواجه بها الثور، عبر حركات اشبه بالرقص. لكن الكارثة تقع، فلم تستطع مواجهة الثور هذه المرة، يهجم عليها يهشم وجهها ملقياً بها على الأرض أكثر من مرة. مشهد على الرغم من شدة ألمه الا ان الفن فيه يجعل المشاهد لا يغمض عينيه أمامه.

أنت أمام صراع بين الحياة والموت، والثور هنا ليس حيواناً فقط بل هو كل شيء ضد الحياة، لتفقد «ليديا» وعيها، وتنضم الى القسم نفسه الموجودة فيه راقصة الباليه «اليسيا» في المستشفى. لكن الفرق بينهما أن «اليسيا» بجانبها ممرض يحكي معها طوال الوقت، أما «ليديا» الى جانبها «ماركو» لكنه صامت.

في الوقت نفسه يظهر حبيب «ليديا» السابق الذي يصر كل يوم على تقديم باقة للزهور تضعها الممرضة في وعاء الى جانبها، والألم واضح عليه، فالحديث يحتاج الى ذكريات وتفاصيل حياة كاملة، وهذا الشيء غير موجود لدى «ماركو» العاشق الجديد الذي يتضح بعد قليل أنه لم يكن سوى عابر.

وبالمصادفة وهو يمشي بين أروقة المستشفى، يشاهد «نينو» وهو يتحدث الى «اليسيا» ويضع المرطب على وجهها وجسدها كيلا يجف، فيتنبه إليه ويدعوه للدخول، ويقول لـ«اليسيا»: «هذا هو الرجل الذي قلت لك عنه سابقاً، الرجل الذي كان يبكي».

يبدأ «نينو» سرد حكايته التي بدأت قبل أربع سنوات، هو يقطن في منزل والدته، التي كانت متحكمة فيه، ومتعلقة به لدرجة توكيله بكل المهام الخاصة بها، من تحميمها وقص شعرها وتقليم أظافرها، وعندما أراد أن يتعلم، تعلم التمريض للعناية بها بعد مرضها، لديه فسحة واحدة تتمثل في نافذة تطل على معهد لتعليم الرقص، ينظر من خلالها على حركات المتدربين الرشيقة التي تتحاكى مع موسيقى عالمية، يركز في إحدى الفتيات، يتعلق بها يراقبها، ينتظر دخولها وخروجها.

وتمر أحداث الذكريات الى يوم لم تظهر فيه الفتاة، يخاف فيقصد منزلها، ليصادف والدها الطبيب النفسي، فيضطر إلى أن يمثل دور مريض بحاجة الى استشارة نفسية، وهو كذلك بالفعل، فيحكي له عن والدته ووحدته. ينتهي اللقاء ليتسلل الى غرفة «حبيبته» ليسرق دبوس شعرها، ويلتقي بها خارجة من الحمام، ويهرب وهو يقول «جئت للاطمئنان عليك». وفي اليوم نفسه، وهو في المستشفى يستقبل حالة لفتاة تعرضت لغيبوبة وما هي الا «ليديا» لتبدأ علاقته العاطفية بها من طرف واحد، هو الراوي وهي المستمعة، يمارس كل الذي تحبه، يذهب لمشاهدة الأفلام الصامتة، ويحضر جميع المسرحيات، وعروض الباليه، ويهرع اليها محدثاً اياها بكل التفاصيل. ومع كل هذا السرد يوقفه «ماركو» ويقول «هي ميتة لا تسمعك»، فيرد عليه «من أكد لك ذلك، حاول أن تتحدث الى ليديا، وإذا لم تستطع فأنت لا تحبها أو انك لا تعرف تفاصيل حياتها وما تحبه». الحكاية ببساطة تدور حول أن المريض أو الضعيف بشكل عام مثل الوردة إذا لم تسقها تذبل، والحديث هنا مع المريض يشبه الماء الذي يروي وينعش. تتوطد العلاقة بين «ماركو ونينو» لتبدأ معها تشابك الأحداث.

حياة

يريد «نينو» طوال الوقت اقناع «ماركو» بأن الغائبين عن الوعي يسمعون ويعون، والمصادفة هي الكفيلة بإعادة النبض الى حياتها، لذلك هو حريص على ابقاء جسد «اليسيا» رطباً، فيقرر أن يجمع «ليديا واليسيا» معاً. يقف الرجلان خلفها ويبدآن بتخيل الحديث بين الغائبات بالوعي، مؤكدين أنهن يتحدثن معهما، ويمضي المشهد بذكريات «ماركو» هذه المرة مع «ليديا» التي لم تنفك اظهار غيرته من حبيبته الأولى، لكن الحقيقة هي تريد الهاء نفسها عن حبها الحقيقي، فنهاية المشهد وقبل المباراة تقول له إن هناك أمرا يجب أن يعرفه، لينتهي مشهد الذكريات بغرفة «ليديا» وحبيبها السابق الى جانبها يطلب منه المغادرة، مؤكداً له أنهما عادا الى بعضهما وهذا ما كان تريد أن تقوله. يغادر ماركو، ويقوده صديقه نينو، الذي يتورط بعد ذلك في تهمة اغتصاب «اليسيا» والتسبب في حملها، ويسجن، وفي الوقت الذي تموت فيه مصارعة الثيران «ليديا» يتصل «ماركو» بالمستشفى فيعرف الخبرين معا، يقرر زيارة «نينو» الذي لا يطلب منه سوى أخبار عن «اليسيا» وعن الطفل، مؤكداً له أنه سيخرج لأن المحامي أكد أنه مختل عقليا، لكنه في الوقت نفسه يقول له إن الطفل مات وإن «اليسيا» مازالت فاقدة الوعي. هذه المعلومة ناقصة، خصوصاً أن «ماركو» قرر أن يعيش في منزل «نينو» ويقصد شرفته ليجد «اليسيا» تجلس في معهد الرقص، فيعلم أن الولادة بوجعها أعادت اليها الحياة مرة أخرى، على الرغم من موت الطفل، فيقرر أن يخبر صديقه، لكن الوقت لم يسعفه، فـ«نينو» انتحر متمنياً ألا يموت بل يصاب بغيبوبة ليرقد الى جانب «اليسيا» لكنه يموت.

فسحة الأمل

في نهاية الفيلم يذهب ماركو لمشاهدة عرض باليه ويبكي كعادته، فتنتبه اليه فتاة جالسة خلفه هي «اليسيا ومعلمتها» ويخرج الجميع في استراحة لتسأله «اليسيا» التي لا تعرفه عن حاله فيجيبها بأنه لا يعاني شيئاً، لكن المعلمة تلمحهما وتخاف من أن يحكي «ماركو» أي شيء لـ«اليسيا» عن الرجل الذي أحبها وأعاد الحياة اليها ومات. لكنه يؤكد لها أنه لن يقول ذلك ابدا، ويضيف أنه يمكن لها في ما بعد أن تعرف بسهولة لكنها تجيبه «لا تنسى أنا معلمة رقص، والرقص ليس سهلاً ابدا، وأدرك أن لا شيء سهل ابداً».

وينتهي الفيلم بـ«ماركو» يجلس مبتسماً وخلفه «اليسيا» مبتسمة ايضاً، وكأن كل شيء حدث كي يلتقيا معا ويبدآن معاً حياة جديدة.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر