جديد ريدلي سكوت

«بروميثيوس».. البـــحث عن الأصل المفقود

فيلم «بروميثيوس» مبني على عالم بصري للمخرج سكوت خبرة عالية فيه. أرشيفية

ريدلي سكوت يعود إلى الفضاء، والفيلم هو Prometheus «بروميثيوس» المعروض حالياً في دور العرض المحلية بنسختين ثلاثية وثنائية الأبعاد، ولعل البدء بفعل «يعود» يمنحنا فرصة العودة أيضاً إلى رحلته الأولى إلى الفضاء مع فيلم Alien «مخلوق فضائي» ،1979 وإلى Blade Runner «بليد رانر» ،1982 وليكون هذا الأخير بعيداً عن الفضاء، لكن على مقربة من «الروبوتات» الذين يصيرون طبق الأصل عن الإنسان، لكن دون روح كما سيتردد في «بروميثوس» أيضاً.

اكتشاف الجنة

فيلم «بروميثيوس» لم يكون عنوانه كذلك بداية، وكان من بين الأسماء المقترحة لهذا الفيلم «الجنة»، وعند مشاهدة الفيلم سيكون الأمر مدعاة للمفارقة والتندر، فما سيكتشفه طاقم الرحلة لن يكون إلا جهنم، لا بل إن الجنة سبق ووردت في عنوان فيلم شهير لريدلي سكوت أخرجه عام 1992 وحمل عنوان «1492 فتح الجنة» عن كريستوفر كولومبوس واكتشاف أميركا، وهنا أيضاً ثمة مفارقة تكمن بأن ما يكون هذا اكتشافاً للجنة سرعان ما يتحول إلى جحيم.


«بروميثيوس» وسرقة النار

تمتزج في فيلم «بروميثيوس» الأسطورة بالخيال العلمي، ولعل عنوان الفيلم يقول لنا ذلك، فـ«بروميثيوس» وفي إحالته إلى الأسطورة الإغريقية كان مكلفاً من قبل زيوس بخلق الانسان، ومن المعروف حسب الأسطورة ذاتها أنه بالغ في حب هذا الكائن، بحيث جعله يمشي على قدميه وليس على أربع، وقد سرق له النار من الآلهة ما منحه المعرفة والنور والدفء، إضافة لتمرده على زيوس وتقديمه له أضاحي من العظام الجلد وتقديم اللحم للإنسان من ما جعله ضحية عقاب أزلي أنزله فيه زيوس، بربطه إلى صخرة وإقدام نسر في كل يوم على نهش كبده والذي سرعان ما ينمو له واحد آخر ليعود النسر وينهشه في اليوم التالي. معرفة ذلك قد يبدو هاماً في مقاربة الفيلم، والتعرف إلى من يكون هؤلاء الذين يجري البحث عنهم، بما يشكل المنطق الخفي للفيلم، كما لو أن من عثروا عليهم ليسوا إلى بروميثيوس وسلالته الخاضعين لعقاب الآلهة، لكن بما يقودهم إلى أن يكونوا أشرارا كما سنرى في الفيلم وعلى النقيض من أسطورة بروميثيوس وحبه الإنسان.

يمكن مقاربة كل فيلم يمضي في مجاهل الفضاء من باب الفضول الإنساني، والهوس في اقتحام عوالم غامضة، لن تكون الرحلة إليها إلا حالة تشويقية مصاغة من اللحظة الأولى، ومصادق عليها طالما أن المجهول ما ينتظرنا، وما يحمله طاقم تلك الرحلة لا يتجاوز الافتراضات التي تحمل الصواب والخطأ، وقد يكون الأمر مهلكاً ومفتوحاً على طرائق وأساليب جديدة في الهلاك، ولعل السؤال الأزلي الساكن في أعماق كل إنسان متعلق بإمكانية أن تكون مخلوقات أخرى تتشارك مع الإنسان الوجود في هذا الكون المترامي، والتطلع دائماً سيكون نحو الكواكب البعيدة، طالما أنه كلما مضى الإنسان أكثر في هذا الفضاء المترامي، اكتشف الحجم الضئيل لاكتشافاته، وعلى شيء من خوض ما يصح توصيفه على الدوام بالعالم اللامتناهي، وعليه فإن من الطبيعي أن يكون من بين ما يبحث عنه هو إمكانية وجود حياة على كواكب أخرى غير الكرة الارضية. المقاربة سابقة الذكر ستكون سينمائياً محاطة بأطياف فيلم هائل لم يفقد أثره ولن، هو فيلم ستانلي كوبريك «أوديسة الفضاء 2001» ،1968 بما يجعل من هذا الفيلم مظلة تضم أفلاماً كثيرة، خصوصاً أن ريدلي سكوت في «بروميثيوس» يمضي خلف أسئلة وجودية كبيرة، وعلى اعتقاد أولي خاطئ بأن في تلك الأسئلة يكمن رهان الفيلم، لكنه سيكون في مكان آخر، وتفتح العوالم المجهولة عن كائنات ستكون أصل الإنسان الأول، وقد هجرت الكرة الأرضية واستقرت في كوكب ناء، لن يتيح لنا إلا معاينتها بوصفها كائنات معادية للإنسان الحالي، لكن الرحلة ستبقى متواصلة، إلا أن ذلك سيحدث بعد أن ينتهي الفيلم.

فضيلة الفيلم الكبرى تكمن في العالم البصري الذي يبني عليه ريدلي سكوت فيلمه، الفضيلة المرتبطة بتجربة سكوت المترامية، وهذا ما لم نكن في صدد القلق عليه، لا بل إنه غني جداً في «بروميثيوس» ومصاغ وفق مقترحات جديدة على صعيد أفلام الفضاء والكائنات الفضائية، وفيه الكثير من السحر والجماليات، الأمر الذي يطالعنا من اللقطة الافتتاحية، وذاك الكائن الراكض، الذي ليس إلا الإنسان الأولي، والذي لا يمكن وصفه هنا بالبدائي، كونه سيكون متفوقاً على الانسان الحالي بشكل أو آخر، والذي سرعان ما سنشهد تفسخه وتحلله، ومن ثم سنقفز إلى مجموعة من المكتشفين الذي يقعون في أحد الكهوف في اسكوتلاندا على رسوم جدارية ستشكل بالنسبة إليهم بمثابة دعوة لزيارة من قاموا بذلك.

يقع ذلك في عام 2089 وستسنتج إليزابيت شو (نعومي رابيس) ومعها تشارلي هولواي (لونغان مارشيل غرين) بأن الأمر يتطلب تلبية تلك الدعوة، خصوصاً مع وجود شركة مستعدة لتمويل رحلة فضائية قد تمتد لسنتين، لا لشيء إلا ليجد مالكها إجابات عن اتصال بأصل الإنسان وأسرار الخلق وأسبابه، وليتعدى الأمر ذلك بالطبع كون صاحب تلك الشركة سيكون باحثاً عن الخلود، واكتساب قدرات تجعله قادراً على هزيمة الموت، كما سنعرف ونحن نتعقب تلك المركبة الفضائية التي تكون فارغة تماماً في البداية لا أحد فيها سوى دايفيد ( مايكل فاسبندر) ونحن نراه يتجول من مكان إلى آخر، وعلى شيء من تسجية الوقت، وذلك بالتلصص على أحلام اليزابيت شو، ومن ثم لعلب كرة السلة وهو يدور بدارجة هوائية، لكن وقبل أن أنسى فإن دايفيد ليس بإنسان بل «روبوت»، وقد أنسى ذلك لمدى تطابقه مع الإنسان. ستكون المركبة هائلة الحجم التي تبحر في الفضاء محملة بطاقم عمل كامل، سرعان ما سيخرج من حجرات أو توابيت يعيشون فيها ما يشبه الثبات طوال ما يتجاوز السنتين، وذلك لكي يصلوا إلى الوجهة التي ستكون في الفيلم مجهولة تماماً، إلا أنها ستبدو صائبة تماماً. وحين يخرج الطاقم فإن المركبة سرعان ما ستجد ضالتها، وتستقر على سطح كوكب، لن يكون في النهاية إلا موطن الانسان الأولي، أو من كانوا موجودين على سطح الأرض وقد صاروا في غياهب مكان ناء يبتعد عن الأرض آلاف السنوات الضوئية.

هذه الاستنتاجات ستأتي من خلال مسعى ذلك الطاقم إلى اكتشاف أصل الإنسان وخالقه ووضع الأسئلة الوجودية على الطاولة ونيل إجابات وافية لم يصلها الإنسان يوماً، ولن يصلها في الفيلم أيضاً، لا بل سيبدو اقتحام المكان الذي يسكنه أولئك وهم ليسوا سوى بقايا بصرية أو خيالات في البداية فتحاً لباب الهلاك على مصراعيه، وإخراج واحد من تلك المخلوقات ستحول إلى تهديد مباشر للحياة الانسانية، كما لو أن هذه الدعوة ليست إلا اطلاقاً لتلك الكائنات لتعود من الجديد وتغزو الأرض، الأمر الذي يحسم بعيداً عن الأرض.

سنتعرف مع نهاية الفيلم على أصل الكائنات في فيلم Alien ولعل «بروميثيوس» لن يكون إلا استكمالاً له وما بدأه سكوت فيه وغيره من مخرجين توالوا على أجزاء الفيلم الأخرى، لكن ومع «بروميثيوس» ستبدو التقنيات البصرية أشد وقعاً، كما أن تحطم مركبة فضائية تحمل كائنات فضائية على سطح كوكب ناء في «إلين» سيقابله الكهف ورسومه في «بروميثيوس»، كما سيكون الثلث الأخير من الفيلم صراعاً مريراً بين طاقم المركبة والكائنات التي تعود إلى الوجود من جراء حضور هذه الحملة الفضائية، وسنعطل كل الأسئلة الكبرى التي بدأ بها الفيلم ونضعها جانباً معلقة ولا معنى لها أمام انطلاق «الأكشن»، وتلك الكائنات الغرائبية التي تنفلت من عقالها ويعاد تكوينها، بدءاً من الأفعى ذات الشكل الخاص التي تدخل جسم اثنين من طاقم العمل، وصولاً إلى ما يصيب تشارلي من جراء ما يضعه له ديفيد في الكأس الذي يشربه، ومن ثم حمل اليزابيت شو منه بكائن عجيب سرعان ما تتخلص منه، إلا أنه يجد للحياة مكاناً ويستطيع مواصلتها بما ينقذنا ربما، ولنعرف من أين جاء هذا «الألين» كونه شبيه تماماً لما شاهدناه عام .1979

كل ما تقدم وطيف كوبريك مهيمن على الأجواء، بدءا من الموسيقى التصويرية، وصولاً إلى ما صار على شيء من «الكليشهيات» في أفلام الخيال العلمي، مثل حالة الثبات التي يعيشها أفراد الطاقم، وتمرد «الربوت» الذي يكون في «أوديسة الفضاء» ليس إلا «هال» الاسم الذي تحمله آله ناطقة لا وجود لها على شكل إنسان، وصراع هذا الروبوت مع رائد الفضاء الوحيد الذي ينجو من أفعاله التدميرية، بينما يطالعنا في «بروميثيوس» ديفيد الذي إن كان لنا أن نربطه بالرجال الآليين الذين لا نستطيع تميزهم عن الإنسان فإن ذلك يحيلنا إلى اعتباره «ربليكانت» كما هو اسم «الروباتوت» في «بليد رانر» الذين يتولى هاريسون فورد أمر تصفيتهم وهم على أعتاب اكتسابهم للمشاعر والعواطف أيضاً، كما أن الصراع بين الإنسان والآلة سيكون حاضراً في فيلم «بروميثيوس»، وليكون لديفيد أجندته الخاصة واكتشافاته التي يمضي خلفها كرمى لعيون سيده صاحب الشركة، لكنه هو من يتخلص من شارلي ويكون في صدد التخلص من اليزابيت شو إلا أنه لا ينجح في ذلك.

الفيلم بصرياً مملوء بالمقترحات الجمالية، وهو وفي كما أسلفنا لأوديسة كوبريك، لكن يمكن اعتبار هذه الوفاء على اتصال بالشكل فقط، فالعظمة التي يرمي بها القرد عالياً في «أوديسة الفضاء» والتي تتحول إلى مركبة فضائيـة تكون قد قالت لنا شيئاً بخصوص نشأة الانسان، وانتقاله من قرد إلى رائد فضاء سيكون مشغولاً تماماً بالوقوع على كل أسرار وجوده التي تنتهي بذاك العجوز الساكن بعيداً جدا عنا وهو ملازم لفراشه، ولعل «بروميثيوس» حمل بذور كل ذلك، إلا أن الاكتشافات التـي سنقع عليها سيجري تحريفها، وربطها مباشرة بسلسلة من الصراعات، ولن يقـول لنا أي شيء بخصوص ما أوهمنا بداية أنه رهان الفيلم.

تويتر