عن فيلم ديفيد فينشر والمحقق الشخصي

«الفتاة ذات وشم التــــــــنين».. يا زمان «الهاكرز»

صورة

يمكن السؤال عما يفعله المخرج الأميركي ديفيد فينشر في هذه الأيام، سؤال مشروع ومتأخر بعض الشيء إن تعلق الأمر بآخر أفلامه The Girl With The Dragon Tattoo (الفتاة ذات وشم التنين)، انتاج العام الماضي، والذي لسبب أو آخر لم نشاهده على شاشات دور العرض المحلية.

لعل البدء بهكذا سؤال على اتصال بكل ما تحمله هذه القراءة للفيلم الذي يعزز مجدداً من حضور هذا المخرج في عالم التشويق والإثارة، الأمر المتفق عليه حين يجري تذكر فيلمه الشهير Seven (سبعة) ،1995 وصولاً إلى Zodiac (زودياك) ،2007 لكن مع اعتبار التشويق جزءاً مما يدفعني للسؤال عما يفعله فينشر، والذي يتكامل مع جزء آخر مهم جداً في تجربة هذا المخرج تتمثل باتصال أفلامه بالمعاصرة وحملها لم يتسيد العالم في وقتنا الحالي.

مخرج «التمبو»

ديفيد فينشر (1962) مخرج الإيقاع أو «التمبو»، ودائماً بما يجعل مسار أحداث الفيلم متصلة ومتسلسلة بتصاعدية، كما هي الحال «الفتاة ذات وشم التنين»، لكن دون أن يفارق الفيلم من أوله إلى آخر الإيقاع السريع الذي يمسي تصاعدياً وسريعاً ومتوتراً أكثر في ثلث الفيلم الأخير، حين يبدأ اللغز بالتكشف ويلمس ميكائيل طرف الخيط، وعلى هدي ذلك يمكن العودة إلى «نادي القتال»، حيث إيقاع الفيلم لا يمنحك الفرصة لتلتقط أنفاسك، وعلى إيقاع واحد يمنح المشاهد شعوراً بأن الفيلم أصاب منه مقتلاً من كثرة الأفكار والحوارات والعنف، وغير ذلك مما يحفل به حلم ديردن المدمر، وصولاً إلى «الشبكة الاجتماعية»، حيث الرهان يكون على الحوار الذي يشبه الكتابة السريعة في غرف «الدردشة»، مختزلة ومكثفة وسريعة.

علاقتي مع فينشر بدأت مع أهم أفلامه قاطبة ألا وهو Fight Club (نادي القتال) ،1999 المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه لتشاك بولانيك، والذي مازلت أبحث عنه في كل جديد له، محملاً لكل فيلم يخرجه فينشر عبء مقارنته بـ«نادي القتال». الفيلم الصالح جداً لأن يكون معبراً إلى مفاهيم التمرد في الحضارة الحديثة، وتحديداً مع انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، مع انعدام المشروعات السياسية أو الأيديولوجيات الكبرى، ودخول عصر ما بعد الحداثة من أوسع الأبواب ودون استئذان أحد، وبالتأكيد تقديم ما يمكن أن يكون عليه التمرد المعولم، أو «الثورجية الفوضوية»، وصولاً إلى تدمير برجي التجارة العالميين، كما يظهران في نهاية الفيلم قبل ان ترتطم بهما الطائرتان في 11 سبتمبر ،2001 ولعل أكثر من 12 سنة مرت على هذا الفيلم ومازال صالحاً تماماً لأن يتحمل الكثير من الاسقاطات، مع كل ما حفلت به هذه السنوات من عواصف وتغيرات وثورات.

«الفتاة ذات وشم التنين» يأتي بعد The Social Network (الشبكة الاجتماعية) ،2010 عن مارك زوكربيرغ مؤسس «فيس بوك»، ولعل الفتاة ذات الوشم تنتمي تماماً إلى عصر زوكربيرغ، وهنا سأجد معبراً أكيداً نحو ما يمثله هذا الجيل، بالحديث عن «الهاكرز»، والمضي خلف المتغيرات التي طرأت على مفهوم بطولة الأفلام، وبالتالي فإننا ما دمنا في سياق الحديث عن «الفتاة ذات الوشم» فإن شخصية المحقق الخاص الأثيرة في الأفلام الأميركية ستخضع لتعديلات وفق ثورة الاتصالات الحديثة والتطور العجيب واليومي على أدوات التجسس والتعقب، وما إلى هنالك، مما يجعل الجريمة المعاصرة أمراً بالغ التعقيد لا يكفي لاكتشاف لغز جريمة أو التجسس على أحد ما التحلي بالذكاء والفطرة، وما إلى هنالك، إذ إن الأمر يتعدى ذلك إلى التقنية، وتناغم الفطرة مع القدرات المعلوماتية، حتى أن الفطرة نفسها أصبحت تحتاج الى إعادة تعريف، إذ عليها أن تكون بشكل أو آخر بالشكل الذي ظهرت عليه ليزبيث (روني مارا).

الأمر مغرٍ هنا للمضي أكثر خلف ما يعنيه ذلك واقعياً، واتصال ذلك بالسينما، ففي عصرنا الحالي يمكن الحديث عن نوع آخر من الشخصيات المتمردة - شريرة كانت أم خيرة - بالاعتماد على «الجريمة الالكترونية» وعلى الحروب الافتراضية التي تكون نتائجها في الواقع الحقيقي كارثية أكثر من تبادل إطلاق النار، وما إلى هنالك، أو أنها تفضي إلى حروب حقيقية تهرق فيها الدماء، لكن المسرح الأولي لذلك كامن في الشبكة العنكبوتية، وإن حروباً كبرى تشن بين الدول على هذه الشبكة، وهناك مفاهيم وشخصيات محورية في العالم ليست إلا عبارة عن مبرمجي كمبيوتر، وهناك مئات القصص الواقعية المشوقة التي تدغدغ مشاعر محبي قصص المحققين يعيشها هؤلاء يومياً، فقراءة كتاب «داخل حرب جوليان أسانج على السرية» الذي أصدره ديفيد لي ولوك هادرينغ، الصحفيان في جريدة «الغارديان»، اللذان تولّيا قضية «ويكيليكس» والتفاوض مع جوليان أسانج، يدفع الى الاعتقاد بأننا نقرأ واحدة من روايات جون لوكاريه الجاسوسية، مع ورود اسماء مثل الرقيب برادلي مانيغ الذي سرب أكثر من ربع مليون وثيقة والقابع في سجنه الآن، وصولاً للطريقة التي وقع فيها في يد الـ «أف بي آي» من خلال وشاية قرصان إلكتروني آخر هو أدريان لامو.

عرض ما تقدم يريد القول إننا في عصر «الهاكرز»، ولن تكون السينما بعيدة عن تقديم هؤلاء بوصفهم الأبطال الجدد، لأنهم بالواقع كذلك، واسترسالاً أعتمد على أسانج كما صوره الكتاب سابق الذكر للتدليل على غنى شخصيته وآخرين كثر مثله لهم أن يكونوا صالحين للظهور على الشاشة الكبيرة (يجري الآن تصوير فيلم عن أسانج).

في الكتاب مساحة للشعور بأننا حيال جيمس بوند حقيقي. أسانج يتنقل من بلد إلى آخر، هاتفه مغلق على الدوام، متأرجح بين كل الصفات: «مسيح المعلوماتية»، «إرهابي المعلوماتية»، «مقاتل من أجل الحرية»، «مريض اجتماعيا»، «فارس نبيل» و«نرجسي واهم»، وصفات أخرى، لها أيضاً أن تمضي بنا إلى نشأته مع أمه التي أهدته أول كومبيوتر في حياته، وزوج أمه الثاني الذي عمل في مسرح للدمى، الأمر الذي يشبه ما صارت عليه حياة أسانج، إذ يقدم عرضه ثم يفككه ويمضي إلى وجهة أخرى، تماماً كما مسرح الدمى. ويخبرنا الكتاب أنه، وفي أثناء مفاوضات أسانج مع ديفيد لي في بروكسل بشأن منح «الغارديان» وثائق «ويكيليكس»، لم يتطلب الأمر سوى كتابة «كلمة سر» على منديل، ثم قال لديفيد لي، ستجد الوثائق على موقع مشفّر، يمكنك تحميل الوثائق منه، ومن بعدها سيختفي الموقع.

أليس هذا أشبه بمشهد من فيلم، حسناً سأترك كل ذلك وأعود إلى «الفتاة ذات وشم التنين» المأخوذ عن رواية سويدية شهيرة بالعنوان نفسه لستيج لارسون، بل هذا جزء من ثلاثية حققت مبيعات هائلة في السويد ومن ثم العالم في ترجمات متعددة لها، وحولت إلى فيلم سويدي أيضاً عام ،2009 للأسف لم أشاهده بعد، لكن سيكون بالمتناول عما قريب، وحينها سأقارن بين ما فعله فينشر والسويدي نيلس أوبليف، كما أنني أقرأ الرواية بأثر رجعي بعد مشاهدتي الفيلم.

يستوقفني فيلم فينشر لأنه ينتمي إلى ذلك التشويق الذي يبرع فيه ، ومع هذا شخصية المحقق الذي ينتقل من لغز إلى آخر ونحن نتعرف الى صحافي اسمه ميكائيل (دانيال غريغ) يقع في ورطة نشره أخبار عن شركة دون أن يحتكم على وثائق تساند المعلومات التي نشرها، ومن ثم يدعى إلى خوض غمار مغامرة، أن يتحول إلى محقق خاص لقصة اختفاء فتاة في السادسة عشرة من عمرها تنتمي الى عائلة من أغنى وأعرق العائلات السويدية، وإلى جانب ميكائيل تمضي شخصية ليزبيث أو الفتاة ذات الوشم التي تحمل الكثير من الغموض والخصوصية، هي التي تحمل حلقاً في فمها وأنفها، ودائماً ترتدي الأسود وتقود دراجتها، وبالكاد يتاح لها أن تأكل طالما أنها تدخن بشكل متواصل. ليزبيث كائن غير اجتماعي وعدائي، وغير ذلك من صفات على اتصال بشكل أو آخر بـ«الهاكرز الحقيقي»، لا بل إن أجمل ما في شخصيتها أنها على النقيض تماماً من كل ما نعرفه عن البطلة الهوليوودية، فهي ليست بحسناء أو فاتنة، ولا تمتلك من الخوارق إلا ما يساعدها على حماية نفسها من المهووس الجنسي الذي يرأس المؤسسة التي تعمل بها، لا بل إن انتقامها منه وأفعال العنف التي تتورط فيها تكون على شيء متناغم تماماً مع قدراتها، هي التي أحرقت والدها حين كانت صغيرة.

يتأسس الفيلم على أجواء ضبابية وباردة على الدوام تشبه الأجواء السويدية، ويبقى لغز البحث عن ابنة أخ هنريك الملياردير البطرياركي النقطة الرئيسة لكل الأحداث الأخرى، وليكون الفيلم عبارة عن تجميع خيوط البحث عنها، والكيفية التي سيقع عليها ميكائيل، والذي ما كان لينجح أبداً لولا الفتاة ذات الوشم، التي تقع في الحب للمرة الأولى في حياتها، حب ميكائيل، هي «الهاكرز» التي لا تعرف في هذا العالم إلا الافتراضي منه، وتمارس العاطفة فقط مع الوصي عليها الذي يصاب بالشلل. الفيلم يعيد للمحقق الشخصي دوره من جديد، يجعل الهوس بأغاتا كريستي وارداً، وعلى شيء من الفيلم اللغز، الذي ننتظر في النهاية حله، بعد أن توضع احتمالات كثيرة أمامنا، إنه التشويق الذي يأخذ بالبشر دون أن يكون مدعاة للكثير من المطاردات، وما إلى هنالك من عتاد حركي، إنه شيء ينتمي لهيتشكوك وديفيد لينش وآخرين برعوا في تقديم هكذا نمط بعيداً عن المقارنة، لكن مع إحداث كثير تعديل على ما يحتاجه المحقق حتى ينجح في كشف اللغز، والحاجة الرئيسة تتمثل بـ«الهاكرز» الذي يحصل على أي معلومة، وبالتأكيد هي الفتاة ذات وشم التنين.

تويتر