فيلم « تينكر تايلر سولدجير سباي » لتوماس ألفردسون المأخوذ عن رواية لوكاريه

لا جاسوسية تعلو على جاسوسية الحرب الباردة

صورة

عند مشاهدة فيلم Tinker Tailor Soldier Spy «تينكر تايلر سولدجير سباي»، المعروض حالياً في دور العرض المحلية، هناك ما يدفع أولاً للاعتراف بأن مرحلة الحرب الباردة هي المرحلة الذهبية للجاسوسية، ومهما حاولت السينما الأميركية والإنجليزية الانتقال إلى مراحل أخرى، فإن تلك المرحلة تبقى الأصل، ولا نعرف إن كان ذلك على اتصال بالحنين، أم أن المرحلة التي تلت الحرب العالمية وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي هي التي وُجد فيها مصطلح «الجاسوسية» في أعتى تجلياته، وكانت الحرب الباردة باردة لأنها استخباراتية أولاً على اتصال بسباق تسلح، ومناطق ساخنة تختبر فيها برودة تلك الحرب.

لا حاجة لمن يعرف أدب جون لوكاريه الجاسوسي لكثير تدقيق لأن يكتشف، ومن المشهد الأول، أن الفيلم مأخوذ من إحدى رواياته، كما أن الأجواء التي يمضي خلفها الفيلم غير معنية بأية مطاردات وتبادل إطلاق نار، وما إلى هنالك مما اعتادت عليه الأفلام أن تتحلى به في أيامنا هذه، ولعل استخدام توصيف «أيامنا هذه» يشير ربما إلى أن «تينكر تايلر سولدجير سباي» لا ينتمي لهذه الأيام، وهذا صحيح فنياً وليس لأن أحداثه تدور في سبعينات القرن الماضي، لا بل إن الإضاءة الخفيفة في الفيلم، والأجواء المصاغة بما يناهض العالم الرقمي الذي نحن فيه، ومعها عناصر كثيرة أخرى ستمنحنا شعوراً بأننا حيال فيلم مصاغ ايضاً كما لو أنه من انتاج السبعينات، وصولاً إلى أنني أتوقع بأن المشاهدين لن يتفاعلوا كثيراً مع هكذا فيلم، خصوصاً أنه يراهن على انعطافات درامية غير حادة، وإيقاع بطيء يراهن على الشخصيات وخصوصية كل واحدة منها، بالتناغم مع نقل الجاسوسية إلى مستويات تطال الإنساني، وتعرية مفاهيم يأتي على رأسها مفهوم الخيانة.

بالعودة إلى أدب لوكاريه فإن الإضاءة عليه ستكون بمثابة إضاءة على ما حمله الفيلم الوفي تماماً للعالم الروائي الخاص الذي خرج به ذلك الكاتب الانجليزي من عمله، هو نفسه جاسوس في جهاز المخابرات البريطانية «إم آي 16» وتعرضه لخديعة من قبل عميل مزدوج كان مزروعاً في ذلك الجهاز الاستخباراتي، ولتكون رواياته على الدوام على اتصال بالخيانة والحب والعواطف الإنسانية التي تعتري الجواسيس والعملاء المزدوجين، على شيء من المآسي التي تمضي جنباً إلى جنب مع عوالم غامضة لا يمكن لأحد أن يصورها كما فعل لوكاريه. لكن في رواياته الأخيرة فإنه انتقل وتكيف مع المتغيرات، فلم تعد الحرب الباردة واردة، والحديث الآن عن «الحرب على الإرهاب»، أو المضي خلف الكوارث التي تسببها شركات الأدوية في افريقيا، كما في روايته «البستاني المخلص»، التي قدمها رالف فينس في فيلم رائع من بطولة رالف فينس وراشيل وايز.

يبدأ فيلم «تينكر تايلر سولدجير سباي» الذي أخرجه توماس ألفردسون مع عملية تجري في بودابست، يقوم بها جيم (مارك سترونغ) بعد ان يخبره كونترول (جون هارت) بأن عليه اكتشاف عميل مزدوج مزروع في جهاز الاستخبارات البريطانية، وعليه مقابلة جنرال هناك، وهذا ما يحصل، لكن سرعان ما تفشل المهمة ويبدو الأمر مكيدة، إذ يقتل جيم.

مع هذا الحدث سيتضح تماماً الفيلم من جهة الأسلوب الذي يسعى إلى تقديمه، إنه معني بتقديم مشاهد ولقطات تتخذ من الحالات الإنسانية معبراً لخصوصيتها بمعنى أن جلوس جيم أمام الجنرال الهنغاري، والطريقة التي يتبادلان بها الحديث، وموسيقى الجاز التي تأتي إليهما من حانة قريبة، وبكاء طفل في أحضان أم تجلس إلى طاولة قريبة، مروراً بالنادل المتعرق الذي تسقط من جبهته قطرة عرق على الطاولة وهو يقدم لجيم والجنرال القهوة، ومن ثم إقدام النادل نفسه على إطلاق النار على جيم وهو يغادر، وذلك بطلقتين، الأولى لا تصيبه بل تصيب الأم، بينما تستقر الثانية في ظهره.

هذا الأسلوب ما سيأسرني في هذا الفيلم، وأعتقد أن المشاهد سيجد صعوبة في تجميع الخيوط الكثيرة التي يرويها الفيلم، وقد عانيت منها كونها ستكون متشعبة ومتداخلة تسعى أن تكون وفية لرواية لوكاريه ولعبه بالزمن بتقديمه وتأخيره والتنقل من دون مقدمات بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكنها لن تمنع من تتبع غاري أولدمان (من المرشجين لأوسكار 2012 عن دوره هذا) وهو يجسد شخصية سمايلي، والكيفية التي سيترافق فيها مسعاه لأن يكتشف العملاء المزدوجين بينما يستعيد خيانة زوجته، كما سنراه حين يتم من باب التندر ترديد النشيد الأممي في حفلة لأفراد الـ«إم آي 16» بينما ينظر من النافذة ليرى زوجته في أحضان زميل له هو سولدجر (كولين فيرث).

يحمل الفيلم الكثير من القصص، التي ستنتهي باكتشاف المتعاميلن مع الـ«كي جي بي»، وتحديداً كارلا الشخصية الغامضة التي لا نراها في الفيلم، كما أن ما حدث لجيم سيضعنا أمام قصة أخرى ونحن نتابع جيم وهو يدرّس تلامذة صغاراً ويعيش في «كارفان»، ونحن نظن أن ذلك فعل استعادي «فلاش باك»، وإلى جانب هذا سنتعرف إلى قصة ريكي (توم هاردي) في اسطنبول ووقوعها في غرام زوجة بوريس في اسطنبول، وحصوله على معلومات منها بخصوص العملاء المزدوجين وإخفاء كل مراسلاته لدى إرسالها إلى لندن.

الفيلم متشعب وهناك ما يمكن أن يضيع أثناء تتبع أحداثه، لكنه فيلم جميل، مصنوع بحرفية عالية، إنه مليء بالرجال الغامضين الصامتين، الذين يعملون بهدوء، ينامون ساعات قليلة إن ناموا، ويدخنون كثيراً، وحيواتهم متشابكة بالجاسوسية وعرضة لكل ما يعصف بالانسان العادي من ضعف وخوف وحب وكره، ولعل الفيلم يعيد للأفلام الجاسوسية بريقها المتواري تحت طبقات سميكة من «الأكشن» المجاني والمطاردات، وما إلى هنالك من وصفات جاهزة.

لم أقم بترجمة عنوان الفيلم، كون كل صفة هي اسم حركي لعميل من العملاء الذين يضع سمايلي (اسم حركي ايضاً على عكس ما هي عليه الشخصية) أسماءهم على قطع الشطرنج، تينكر هو بيرسي (توبي جونس) وتايلر الخياط هو بيل (كولين فيرث) وسولدجر هو روي (كيران هيندز) إلى أن يكتشف سمايلي حقيقة كل واحد منهم.

تويتر