فيلم عن النازيين الجدد في ألمانيا

«المقاتـلة».. مـاريســــا على صليب معقوف

صورة

جرعات كبيرة من العنف حملها فيلم الألماني ديفيد ونيندت Combat Girl «المقاتلة» الذي عرض في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي في إطار برنامج «ألمانيا في دائرة الضوء»، بما يدفعني بداية للخوض بمقدمة طويلة بعض الشيء، ومن ثم المضي خلف ما قدمه هذا الفيلم، وهو يتناول «النازيين الجدد» في ألمانيا.

العنف المنظم بحاجة إلى غطاء فكري، وعليه يصبح على شيء من القتل المتسلسل والممنهج. لا بل إن الفراغ الذي يعيشه انسان لا شيء يملأه كما تفعل فكرة مجنونة تتناغم والمراهقة، ولتكون تلك الفكرة ليست إلا مراهقة فكرية، لكنها دموية وكارثية محملة بتلك البساطة التي تشبه بساطة القتل، وقد أصبحت لا تتجاوز الضغط على زناد مسدس.

الجانب الأبقى للفكر الإقصائي يتمثل بالعنصرية ومناصبة الآخر العداء، وعلى شيء من الإلغائية الشمولية التي لا تستثني أحداً إلا من يشبهني بالعرق أو القومية أو الدين، وعلى هذا الاساس يمكن أن تجتمع لدى الإنسان كل متطلبات الاستعداد للقتل، طالما أن الآخر ليس إلا عدواً، ولعل ذلك حاضر على الدوام في تاريخ البشرية، وله أن يشهد في عصرنا الحالي ازدهاراً ونكوصاً بعد كل ما حققته الحضارة العالمية من مكتسبات إنسانية بدأت مع عصر الأنوار.

وبالانتقال إلى فيلم «المقاتلة» فإن للعنف أيضاً، وعلى صعيد حياتي يومي، أن تقابله القسوة بما يطال كل شيء، قسوة في الكره إلى جانبها قسوة أيضاً في الحب، وبما يستحضره ذلك من مخدرات وعنصرية وأوبئة جسدية وفكرية، دون أن تكون هناك إمكانية للفصل بينهما، وكل ذلك ضمن إطار أيدلوجي، وإرث يتزايد حضوره في ألمانيا، أو في أوروبا عموماً، ويكفي أن نورد كلمة «النازية» ليعرف بالحال ما المقصود بهذه الأيدلوجيا.

على إيقاع فيلم «المقاتلة» أن يكون متسقاً مع ما يقدمه، يبدأ من فتاة صغيرة تركض بخطوات متثاقلة على الشاطئ إلى أن تصل إلى جدها، ولنكتشف أنها تحمل حقيبة على ظهرها وقد مُلئت بالرمل الرطب، ومن ثم سيخرج علينا مجموعة من الشبان والشابات يمضون في قطار ويضربون كل من يصادفونه، وبمنتهى الصلافة وعلى شيء من المرح الذي لا يحمل من المرح شيئاً، إلى أن يصلوا إلى رجل وامرأة آسيويين، ولينهالوا عليهما بضرب مبرح وهم يصرخون بهما «عودوا إلى فيتنام، هذه ليست فيتنام، إنها ألمانيا».

سنعرفهم ولا حاجة للفيلم أن يقول لنا شيئاً في هذا الخصوص، من رؤوسهم الحليقة، من قصات شعورهن إن كن نساء، ومن تلك الأوشام، والصليب المعقوف وشعار الرايخ، إنهم النازيون الجدد، وما الفتاة التي سنقع عليها في مشهد جنسي لا يختلف بشيء عن عنف ما قاموا به في القطار، لن تكون إلا ماريسا (ألينا ليفشن)، هي التي لا تكره فقط اليهود والمهاجرين والشرطة، بل كل شيء، وفي داخلها من الغضب ما يكفي لأن يغمر العالم، إنها هي نفسها الفتاة الصغيرة التي نقع عليها أول الفيلم، وقد صارت في العشرين.

مع ماريسا ستنبني قصة الفيلم الرئيسة، وسنمضي معها إلى تلك الحفلات الصاخبة التي يقيمها اصدقاؤها الذين لا تنتمي إلا إليهم، ولا تجد نفسها إلا معهم، حيث موسيقى «الهيفي متل» والوصول إلى أعلى درجات السكر، وتحويل الكراهية والعنف إلى فعل طقسي، برفقة استعادات لخطابات أدولف هتلر.

وفي مسار موازٍ سنتعرف الى شابين أفغانيين مهاجرين، سيتعرضان على يدي ماريسا ورفاقها لشتى أنواع التنكيل، لكن وللمفارقة سيداهم ماريسا شيء من تأنيب الضمير، خصوصاً بعد أن تقدم على ضربهما بسيارتها بينما يكونان على دراجتهما، ولعل تأنيب الضمير ذاك سيكون نقطة التحول الدرامية في شخصية ماريسا.

يستوفي الفيلم كل أشكال غسيل الدماغ الذي يتعرض له من يؤمنون بتلك الأفكار، فنحن ايضا سنكون حيال المراهقة سفينغا ولم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، والكيفية التي تتورط فيها مع «النازيين الجدد»، كيف تهرب من صرامة أب لا يعرف الرحمة يقوم بشم يديها وأنفاسها للتأكد من أنها لا تدخن، وغير ذلك من تصرفات متحلية بشتى أنواع القسوة والصرامة.

فيلم «المقاتلة» يتحرك في مستويات متعددة يستكمل من خلالها ظاهرة «النازية الجديدة»، وكل ذلك في اطار درامي وإيقاع متسارع، وله أن يذكرني بفيلم مايكل هنكه «الشريطة البيضاء» الذي لا علاقة له بـ«المقاتلة»، من حيث الشكل والمرحلة التي تجري فيها أحداثه، لكن وفي المستوى المتعلق بنبش طفولة ماريسا وعائلتها المفككة بين أم عصابية وجد يقول لها إن كل ما قيل عن النازية ليس صحيحاً، إضافة للتربية التي تتلقاها سيفنغا، فإن الاستناد إلى هنكه لن يكون ضرباً من مقارنة ما لا يقارن، ذلك أنه قدّم في ذلك الفيلم من خلال فتية قرية ألمانية في عشرينات القرن الماضي البذور الاجتماعية للأفكار النازية ومحيطها الاجتماعي والنفسي التي تبناها جيل بأكمله، تعرفنا في ذلك الفيلم الى نشأته وتلك التربية الصارمة التي أفضت به لأن يكون على ما كان عليه مع بزوغ هتلر والنازية.

اختم بمخاوف الصديق الألماني أوليفر غلاسناب من قناة «دوتشيه فيله» الذي جاء دبي لتغطية برنامج «ألمانيا في دائرة الضوء»، وهو مهتم جداً بانطباعات المشاهد العربي عن «المقاتلة»، ومتخوف من أن يتحول هذا الفيلم إلى أيقونة بالنسبة للنازيين الجدد، كما حدث مع «العراب» ومحاكاة رجالات المافيا لهذا الفيلم حول العالم.

تويتر