المعالجة السينمائية الحصيفة لجيانو إميلي

«الرجل الأول».. فيلم مقتبس عن روايـــة كامو الملطّخة بدمه

صورة

ما من شيء جديد في أن نشاهد فيلماً مأخوذاً عن رواية، خصوصاً ان عرفنا أن كاتب تلك الرواية هو ألبير كامو (1913-1960)، لكن هناك ما يدفع إلى التوقف أولاً أمام ما يحيط بتلك الرواية، والذي يستدعي رواية أخرى أو فيلماً عن الظروف التي استخرجت من خلالها هذه الرواية الملطخة بدم كامو نفسه.

عنوان الرواية/الفيلم Le Premier Homme «الرجل الأول»، وهي الرواية التي عثر عليها في سيارة الناشر غاليمار، وقد قضى هو والبير كامو في حادث سيارة بينما كانا في طريقهما إلى باريس، دون أن أفوت فرصة القول: «يا لها من ميتة!» والعبث في أعتى تجلياته يحل على المبشر بـ «العبثية»، وكامو لم ير في الحياة حسب كتاباته إلا ضربا من ضروب العبث، وهو يقول لنا ليس الإنسان إلا سيزيف الذي يحمل الصخرة على عاتقه ويصعد الجبل، لتعود وتتدحرج إلى أسفل ويعود يحملها ويصعد بها، إنه التوق إلى الذروة والصعود والتسامي لكن ليكون محكوماً دائماً بالعودة إلى الأسفل.

أتذكر حين صدور الرواية عام1995 أي بعد وفاة كامو بـ 35 سنة، أني قرأت شيئاً يقول إن جل ما كان يخشاه كامو هو أن يقضي في موت مفاجئ مثل حادث سيارة أو ما شابه، وهذا ما حصل كما لو أنها مصادقة من القدر على العبثية، ولعل هذه الرواية التي ترجمت إلى العربية بعد صدورها بسنة أوسنتين، كانت حاملة لكل ملامح العمل الأخير كونها جاءت على شيء من أدب السيرة الذاتية، وفي تتبع لعلاقة كامو بأمه، تلك العلاقة التي سنضيء لها في سياق عرضنا للفيلم، لكن علينا معرفة أن والدة كامو لم تقرأ عملاً واحداً من أعمال كامو، لا لشيء إلا لأنها كانت أمية.

رواية كامو في أياد سينمائية أمينة، وتوصيف أمينة لا يعني الأمانة على الرواية بالمعنى الحرفي الساذج لهذا التوصيف حين يجري التكلم عن فيلم مأخوذ عن رواية، بل بمعنى أن الأمانة السينمائية التي تستدعي معالجة سينمائية حصيفة للعمل الأدبي، وهذا ما فعله المخرج الإيطالي المعروف جيانو اميلي وهو يقدم «الرجل الأول» الذي اتيح لي مشاهدته في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي، وقد نال هذا الفيلم جائزة النقاد الدوليين في مهرجان تورنتو السينمائي، حيث سيكون الفيلم معبراً بصرياً جميلاً لرواية كامو، وحراكاً مصنوعاً بحرفية عالية بين ماضي وحاضر شخصية الفيلم الرئيسة جاك كورميري (جاك غامبلين)، أو بين كورميري الرجل وكورميري الطفل، وليس كورميري إلا كامو نفسه.

يضيء الفيلم في ملمح مهم من ملامحه علاقة المستعمِر والمستعمَر، ويظهر كامو بوصفه كاتباً فرنسياً جزائرياً، وهذا أمر لا جديد فيه هو الذي وصف لدى نيله جائزة نوبل للآداب عام 1957 بأول كاتب مولود في افريقيا ينال هذه الجائزة، كما أن الفيلم وعبر جاك كورميري يضيء على ما عرف إبان استقلال الجزائر بـ «الأقدام السوداء» التوصيف المرتبط بالفرنسيين والأوروبيين الذين جاؤوا مع الاستعمار الفرنسي واستوطنوا الجزائر، وقد تم طردهم وقد بلغ تعدادهم مليون إنسان من الجزائر بعد الاستقلال، وليكون كامو وعائلته من بين هؤلاء، ونحن نقع على جاك كورميري من البداية وهو يعود من فرنسا إلى الجزائر البلد الذي ولد فيه وعاش طفولته ومراهقته وشبابه فيه، وسنشهد إلقاءه محاضرة يدعو فيها إلى العيش المشترك بين الجزائريين والفرنسيين، وما إلى هنالك من استعادة لموقف كامو المعروف في هذا الخصوص، حين كان يحمل جبهة تحرير الجزائز والاحتلال الفرنسي معاً مسؤولية العنف.

سيتحرك الفيلم في زمنين كما أسلفت، فجاك كورميري الطفل سيكون تحت رحمة جدته القاسية التي لا تعرف الرأفة، بينما أمه ستكون مسلوبة الإرادة أمام سطوة الجدة، إنها طفولة محاصرة بالفقر واليتم كون والده مات بينما كان في سنته الأولى، وعليه سيمضي الفيلم في استعادة طفولة جاك كورميري، كأن نشاهد كورميري الطفل برفقة رفاقه في الحي الذين سيكونون من الجزائريين يقومون بمعالجة قفل عربة تحتوي على كلاب يقوم بالتقاطها رجل أبله، وحين يتمكنون من إطلاق سراح الكلاب، يلاحقهم ذاك الرجل ويتمكن من إمساك جاك، وليضعه في العربة التي لن تكون إلا عربة سجن محاطة بالقضبان، وليتركه ذلك الرجل حبيسها حتى مغيب الشمس، لا بل إن ابنه من سيقوم بإطلاق سراحه.

سرد المشهد السابق ليس إلا مسعى لتقريب الكيفية التي قدم فيها اميليو طفولة جاك كورميري، وتنقلات الإضاءة والبناء الجمالي المتسق مع الحالات الدرامية لمواقع التصوير، وتقديم الطفولة كاملة عبر مشاهد ولقطات تتولى فيها الصورة قول كل شيء.

جدة جاك ستنتقل من قسوة إلى أخرى اتجاه جاك، سيمضي مع أخيه الأكبر المتحلي بطيبة مفرطة للعمل في المطبعة، سنتعرف إلى علاقته مع أمه التي يعشقها ويذهب إلى عملها كل يوم ليتمكن من تناول صحن حساء، وسيكون استاذه في المدرسة هو حبل الخلاص الوحيد لجاك حين ينجح في إقناع جدته بضرورة قبولهما بالمنحة الدراسية التي يوفرها له. وإلى جانب ذلك سيمضي جاك متنقلاً في أرجاء الجزائر، سيكون على شيء من استجماع حياته، سيمضي إلى القرية التي ولد فيها، سيزور صديقه الجزائري في القصبة وكل من يراه يمشي فيها ينظر إليه بريبة كونه فرنسياً، وليكون صديقه معتكفاً في البيت وكله أسى كون ابنه قد حكم بالإعدام على يد الاحتلال الفرنسي، سيسعى إلى انقاذ ابن صديقه لكن من دون ما يشير إلى نجاح يلوح في الأفق، وبرفقة ذلك سيبقى مقيماً لدى أمه العجوز، التي ستنجح في نهاية الفيلم في كتابة شيء واحد ألا وهو اسم ابنها جاك كورميري، ونحن نراها تقلد كتابة الاسم كما حملته إحدى الصحف، فاعلة ذلك بمنتهى المشقة.

تويتر