السينما الصامتة وعصر الصورة

«البارجة بوتمكين».. ثورة تبدأ من صحن حساء

الفيلم يعبر عن دوافع الثورة. أرشيفية

وأنت تتقدم إلى الأمام، تلتفت إلى الخلف، ليس في الأمر ما يؤدي إلى تعثر ما، لا نريده نكوصاً أبداً أو تقهقراً، لكن يمكن ومن خلال هذه الالتفاتة استقدام الكثير مما خلفناه خلفنا وهو نابض ومترع بالحياة، وبما يجعله أيضاً حاجة آنية وعاجلة، وعليه سيكون حديثنا على شيء من المضي خلف مفاهيم سينمائية أولية ووضعها في سياقات الثورات المشتعلة في عالمنا العربي، بحيث ان حجم ما يتحقق وتحقق سيكون معبراً إلى السينما الصامتة بدل تلك الناطقة، وسنستعيض عن الملون بالأبيض والأسود.

الأمر مغرٍ مثلاً بتوصيف ذلك بالارتداد خلفاً نحو الأمام، توصيف ملتبس لكنه حقيقي، كأن نرجع إلى عام 1925 وفيلم سيرغي ايزنشتين «البارجة بوتمكين»، ونقول الثورة تبدأ من صحن الشوربة، من الديدان التي تخرج من اللحم الذي يراد للبحارة أن يأكلوه، ونحن نمضي هنا مع الفيلم بعيداً عن الإضافات السينمائية التي يشكلها في تاريخ السينما أو الحديث عن المونتاج الأفقي أو التتابعي لدى ايزنشتين والفرق بينه وبين المونتاج العمودي أو التزامني لدى أورسون ويلز، الأمر أبسط وأعقد من ذلك في الوقت نفسه، لا بل إنه يقودنا أيضاً إلى المسرح، والعودة إلى اشتباك السينما مع فنون أخرى، لكن عبر القول إن الزمن الذي نعيش فيه لا تفارقه توصيفات من نوع «إنه عصر الصورة»، الحقيقة الصارخة منذ زمن أصبح طويلاً وصولاً إلى كونها أيضاً على شيء من البديهيات الآن، وبالتالي فإن القول إن الأحداث والمفترقات التي نشهدها ليست على أي شيء من المسرحة، بعيداً عن إلغاء المسرح وسيطاً فنياً، بل عبر وضع المنطق المسرحي إلى جانب السينمائي وإضاءة الفوارق بما ينعكس على المعاش، والنقل الحي والمباشر لما نشاهده على شاشات التلفزة أو ما يتم تداوله عبر الانترنت، وصولاً إلى فيلم ايزنشتين والمجاز الثوري الذي لا يموت على صعيد ما يقدمه بعيداً عن كونه فيلماً مفصلياً في تاريخ السينما.

وهنا سأعود إلى كتاب صدرت ترجمته العربية عن وزارة الثقافة السورية منذ أكثر من 17 سنة، بعنوان «الدراما السينمائية» لسيمون فرايليش، وأقتبس ما يلي: «في المسرح لا ينتاب المتفرج أي تشويش فكري عندما يقف الممثلون في نهاية العرض المسرحي يحيّون المتفرجين، ويكون من بينهم بطل المسرحية هاملت وقد رآه يموت لتوه في مؤامرة حيكت ضده. أما في السينما فمثل ذلك يسبب تشويشاً لأن البطل والممثل في العرض النهائي هما واحد بالنسبة للمتفرج».

في وضع ذلك في سياق النقل الحي المباشر للأحداث في العواصم العربية، سواء على الفضائيات أو الانترنت، فإن مسرحة الأحداث ستكون عبر سردها كلامياً، الأمر الذي يبقى منقوصاً ما لم تأتِ الصورة لتعزيز ذلك، حينها يمكن الحديث عن السرد السينمائي، ففي المسرح تحدثنا الشخصيات عن قطار يملأ ضجيجه القرى التي يمر بها، بينما نرى ذاك القطار ونسمع ضجيجه في السينما، وهنا فرق كبير بين الاثنين، وعليه فإن تسرب الصورة والكليبات للأحداث سيكون الأداة الأولية لتعميم الأحداث وإحداث الأثر، وفي الفضائيات يخضع ذلك لإدارة الحدث والمدة المفتوحة أمام الصور لحدث بعينه دون آخر، الأمر الذي يمكن قياسه من الصور التي تتداولها ومن ثم تأتي الحوارات أو التعليقات وما إلى هنالك، وبالتأكيد فإن من نراه يقتل أمامنا على الشاشة لن يصحو من موته ويحيي معشر المشاهدين.

ننتقل الآن إلى «الحقيقة» الكلمة حاملة آلاف الأوجه، مع أن هناك على الدوام لكل منا حقيقته، لكن الحقيقة هنا فنية وعند مفترق تاريخي من خلال استثمار ايزنشتين لها في بناء أفلامه، وتحويل الحقيقة في المسرح بوصفها عاملاً مشوشاً على الجمهور إن تعلق الأمر بالبطل والحدث إلى عامل حاسم في السينما، بمعنى تصوير الأحداث في الفيلم دون ديكورات، وصولاً إلى اعتباره «ان امكانية التعبير الخارجي عند الممثل في السينما يجب ألا تتخطى قوة التعبير للأماكن الحقيقية». وعليه فإننا في «البارجة بوتمكين» لن نرى بطلاً، والفيلم أساساً من بطولة الأحداث نفسها، بما في ذلك البحار الأول الصارخ بالثورة، والذي يكون موته الشرارة الأولى للثورة التي سيمضي بها أهالي مدينة أوديسا، إنه شهيد الثورة الأول الذي يأتيهم من البحر، من البارجة التي انتصر فيها البحارة على القبطان والضباط.

مدهش فيلم «البارجة بوتمكين» وأنا أشاهده للمرة التي لا أعرف كم، ولتكون هذه المرة مختلفة عن جميع المرات السابقة، ومن زاوية رؤية بسيطة جداً ألا وهي تتبع أحداثه من خلال اتصاله بما نعيشه يومياً، فالبحارة يقولون: «لقد حان الوقت لكي نعبر بصوت عال»، فإذا باللحم الذي سيتم اعداده طعاماً لهم فاسد، لا بل إن طبيب السفينة سيعاينه وسيرى ونرى الدود يخرج منه، مستعملاً نظارته وبكلتا عدستيها، وسيقول إن اللحم جيد وصالح للأكل، لكن البحارة لن يأكلوا منه، سيمتنعون عن تناول الحساء المعد منه، وسيعتبر ذلك بمثابة عصيان، سيأمر قبطان السفينة بإعدام مجموعة من البحارة ممن لم يتناولوا الشوربة، لكن وفي اللحظة التي يوجه فيها الرماة بنادقهم نحوهم يصرخ فيهم أحد البحارة، وتبدأ الثورة التي ينتصرون فيها على الضباط، ويرمون بطبيب البارجة إلى البحر، ويهجمون على رجل الدين الذي يكون متواطئاً مع الضباط، مانحاً غطاءً سماوياً لأعمالهم وطغيانهم.

نعود إلى البحار الذي يطلق شرارة الثورة والذي سيقتل، ويتم إرساله بقارب إلى شاطئ أوديسا، وهناك سيكون موته إيذاناً للثورة في المدينة التي تخرج نساء ورجالاً واطفالاً، وليتعرضوا للمجزرة الشهيرة على الدرج، والتي لها أن تكون أشهر مشهد في تاريخ السينما.

لن أدخل في تفاصيل الأحداث، لكن سأنتقل إلى ما يعيشه العالم العربي الآن عبر بنية «البارجة بوتمكين»، حيث يأتي الوعي والرغبة في التخلص من الظلم والاضطهاد والفقر أولاً، ومن ثم تندلع الشرارة الأولى من بحار يمتلك الجرأة لأن يصرخ برفاقه لكي يهبوا، كما لو أنه «بوعزيزي تونس»، موت الأول معادل لمأثرة احراق الثاني نفسه، وبالتالي فإن استقبال الشعب ذلك بالثورة على القتلة وسارقي أموال الشعب، لكن يبقى الفرق أن البارجة «بوتمكين» ستتولى أمر دك حصون القوات الموالية للنظام القمعي في الفيلم ونصرة العمال الروس، بينما الثورات العربية جاءت سلمية، بدءاً من تونس المنطلق، لكن مهلاً، أليس هناك من لا يعرف إلا الرصاص الحي في مواجهة السلمية تلك، وصولاً إلى الدبابات والطائرات، ليبيا وآلاف القتلى تقول لنا ذلك دون أن تمنح سلمية الثورة هناك أي خيار سوى خيار السلاح.

تويتر