لا توجد سوى حقيقة الفيلم

السينما وراية الانتصـــار على الزمن

«موهولاند دريف» يقدم درساً سينمائياً في السرد. آوت ناو

الحقيقة متخلى عنها، إنها رهن الفيلم. الزمن الذي تتأسس عليه الأحداث شيء والزمن الواقعي شيء آخر، الأول معركة يكتب النصر فيها للفن، في الثاني الخسارة ستكون العنوان الأكبر الذي يهيمن على البشر في صراعهم مع الزمن الذي لا يعرف إلا أن يمضي وينقضي، الإبداع أولاً وأخيراً صراع مع هذا الزمن، وفي كل الحالات تبقى هناك فجوة زمنية لا يمكن ملؤها بين ما جرى وبين وصفه، نقول «خرجت هدى من بيتها في تمام السابعة مساء، واستقلت سيارة تاكسي، ومضت لزيارة أختها المريضة...»، الفعل ماض، لقد خرجت وانتهى الأمر، ولحظة كتابتنا ذلك فإننا نتعقبها وهي تسبقنا، الكلمات تلهث ولن تستطيع اللحاق بها، الفعل سابق للكلمة على الدوام، وحين نمضي في تتبعها بكاميرا، فإن الماضي سيمسي حاضراً، لا بل إن السينما أيضاً تمتلك حركية جنونية تجعلها أيضاً قادرة على معالجة الماضي وحتى المستقبل، كما لو أنهما في الزمن الحاضر.

وحدها السينما تستطيع الانتصار على الزمن، هناك معارك كبرى اندلعت وانتصرت فيها السينما، سيرجي ايزنشتين فعلها في «الدارعة بودمكين»، استغرق سقوط عربة الطفل دقائق لتكتمل معركة حشود المنتفضين مع الجنود الذين يبدأون بإطلاق النار من بنادقهم.

في ساعتين ستنبني حياة كاملة، سيطفو على الشاشة ما يجعلنا وجهاً لوجه أمام ما نشاهده والعتمة تحيط بنا من كل جانب، سواء كان الفيلم يمضي في خط مستقيم وفق تتابع أحداث تقليدي، أو من دون تسلسل، كلاهما على شيء من الاشتباك مع ما يتوق ليقدم لنا زمناً واقعياً، والواقعية هنا لا تعني أبداً أن الزمن يسير في خط واحد مستقيم، هذا غير صحيح أبداً، أحب كثيراً أن استشهد بالروائي الفرنسي آلان روب غرييه، وقد خاض تجربة سينمائية وحيدة ربما، وهو يرفض التسلسل الزمني الواقعي والحبكة التي تسير بخط مستقيم، إذ إن «ذكرياتنا عن الأحداث لا تتطابق مع الحقيقة، وهناك تداخل معقد بين إدراكنا الزمن وسيره الفعلي، ففي الفيلم لا توجد حقيقة سوى حقيقة الفيلم نفسه، ولا زمن سوى زمنه، إذا سألني الناس كم استغرق صنع «مرينباد» (يقصد الفيلم الذي كتبه بعنوان «آخر سنة في مرينباد»): سنتان؟ شهران؟ ثلاثة أيام؟ فسأجيب ساعة و32 دقيقة، أي مدة عرض الفيلم، لأنه لا وجود لقصة مرينباد منفصلة عن الطريقة التي رويت بها».

اقتبس ما تقدم من كتاب «الوسيط السينمائي»للويس جاكوب، وأمضي خلف آلية السرد التي حملها فيلم «مرينباد» حيث السرد في صيغة المخاطب، وبالتالي فإن الشخصية تقول «أنت سألتني أن أفعل..»، كما لو أن الكاتب أو المخرج أو الراوي يخاطب الشخصيات التي يصنعها، وبما أننا نتعقب الزمن، فإن أفضل ما يتيح لنا ذلك هو القفز به عبر الحلم، حلم انغمار برغمان على سبيل المثال في «الفراولة البرية»، حيث الساعة دون عقارب، أو أن يكون زمن الفيلم حاصلاً في رأس الشخصية، كما فعلها ديفيد لينش في «مولهولاند دريف» ،2001 حيث سيمنحنا هذا الفيلم أيضاً مساحة للتعرف إلى درس سينمائي في السرد، إذ البناء الكامل سيكون آتيا من مخيلة ريتا، سنمضي، بل سنلهث خلف أحداث متتابعة، ومصائر تتغير في لحظة، وحيوات تنقلب رأساً على عقب بغمضة عين، وصولاً إلى أحداث لن نجد لها في النهاية ما يبررها أبداً، مثلما هي الحال مع الحلم أو الكابوس الذي يرويه أحد ما لن يعود للظهور مجدداً في الفيلم. أروي سريعاً بداية الفيلم، ريتا في سيارة ليموزين، تتوقف السيارة ينزل منها المرافق الجالس في المقعد الأمامي، يوجه مسدسه نحوها، وفي هذه اللحظة تصطدم سيارة بالليموزين، فلا يتمكن القاتل من قتل ريتا، فتهرب، وتمضي إلى أن تصل بيت تنام في حديقته، وفي الصباح، فإن صاحبة ذاك البيت تكون في طريقها للسفر، فتتسرب ريتا إلى البيت فتعيش فيه، ومن ثم تأتي بيتي قريبة صاحبة البيت فتسكن ذلك البيت، وتنشأ علاقة بينهما لدرجة الغرام، وعلى هذا الإيقاع تمضي أحداث وأحداث، وتدخل شخصيات كثيرة، إلى أن نصل النهاية التي تقدم، وبالعناصر نفسها، قصة أخرى تماماً، تكون ريتا قد روتها وغيرتها على طريقتها الخاصة. إنه اللعين لينش، ودائماً هناك ما يبقى في أفلامه من دون أي تفسير منطقي، الأمر الذي يبقى ملحاً وحاضراً بعد المشاهدة، كما هي الحال في فيلمه Lost Highwa «طريق سريعة ضائعة» ،1997 حيث تبديل الشخصية الرئيسة بأخرى، سيضعان أمام فيلمين في فيلم، وامرأة سرعان ما تصير امرأتين، وكل ما له أن يضعنا أمام انزياحات سردية حادة، لها أن تفرض زمنها ومنطقها، المنطق الساحر الذي يجعل من شاهده يعود ويشاهده من جديد وباللذة السردية نفسها، فكما بدأنا، الحقيقة متخلى عنها، إنها حقيقة الفيلم فقط.


«يأسـنا العظيـم».. مـن كثرة الأمل

http://media.emaratalyoum.com/inline-images/366084.jpg

الفيلم يتحرك في إطار علاقات استثنائية. أرشيفية

لن يكون يأساً كاملاً، بل له أن يكون معبراً إلى إشراقات كثيرة متأتية من اليأس نفسه، وعلى مبدأ اليأس من كثرة التطلع إلى المضيء والجميل على الدوام. هذا حقيقي تماماً، لكن مع الفيلم التركي المعنون Our Grand Despair «يأسنا العظيم» للمخرج سيفي تومان في ثاني تجاربه الروائية الطويلة سيكون علينا إجراء بعض التعديلات، إن تعلق الأمر باليأس، بل إن العنوان ونحن نتابع أحداث الفيلم الذي حملته الدورة الاخيرة من «مهرجان برلين السينمائي»، سيكون خاطئاً بالتأكيد، ما سنكون حياله هو جرعات أمل كبيرة إن تعلق الأمر بالصداقة التي تشكل رهان الفيلم الأول والأخير، حيث اندر وسيتين شخصيتا الفيلم الرئيسة على التصاق كامل ببعضهما بعضاً، ولتأتي امرأة وتحدث انعطافة طفيفة في حياتهما، وعلى قدر لا يدمر صداقتهما، كما هو مصادق عليه وفق وصفات جاهزة في هذا الخصوص، لكن على العكس تماماً بما يزيدهما التصاقاً أيضاً.

فيلم «يأسنا العظيم» غير معني بالتحرك إلا في اطار العلاقة الاستثنائية التي تربط اندر «الكر اكسوم» مع سيتين «فاتح أل»، وبالاتكاء تماماً على أنهما يعيشان معاً في تناغم حقيقي لا يخلو من اختلافات تجعل صداقتهما أكثر واقعية بدءاً من الشكل وبينة جسد كل واحد منهما، وصولاً إلا الخلافات البسيطة التي لابد منها، وما عدا ذلك فإنهما يكملان بعضهما بعضاً، وهما صديقان منذ المدرسة الثانوية ويقتربان الآن من الـ.40 الحدث الذي سيضيء لنا كل ما تقدم سيكون متمثلاً بصديقهما فكرت الذي يعيش في ألمانيا، والذي يتعرض لدى زيارته تركيا لحادث سيارة يودي بحياة والديه، وليسألهما فكرت السماح لأخته نهال بأن تعيش معهما لتتخلص من آثار حزنها وربما يأسها.

بداية مقاربة اندر وسيتين لوجود كائن غريب في حياتهما ستكون منهكة، سيكون عليهما احتمال حالتها النفسية المذرية، وسيعملان على إخراجها من تلك الحالة، التي ما أن تخرج منها حتى تجد نفسها حيال شخصين استثنائيين بكل المعايير، فلكل منهما خصال خاصة، وماض حافل بالتجارب، فأندر كاتب روائي، بينما يتحلى سيتين بكل الطرافة والخفة التي تجعله ملاك اندر الحارس، وبالتالي سيخضعان لمعاينة امرأة مراهقة على مشارف الـ18 من عمرها، لها أن تجد فيهما كل ما على الرجل أو فارس الأحلام التحلي به، وبناء عليه يمضي الفيلم وكل منهما في طريقه لأن يقع في غرام تلك الصبية المحاطة بالنسبة إليهما بعدد كبير من المحظورات، أولها صغر عمرها، ومن ثم كونها أخت صديقهما التي يعرفانها وهي طفلة، وما إلى هنالك من صراعات سيعيشانها، وكل لا يعرف عن الآخر أنه يفكر مثلما يفكر هو، إلى أن يصارحا بعضهما، وليجدا في كونهما يحبان المرأة نفسها أمراً يستدعي الاحتفاء، وليعيش كل منهما بعد ذلك صراعاته في منع نفسه من الانجراف نحو علاقة محظورة وكل على طريقته، وصولاً إلى انغماسهما في مشكلات نهال وعوالمها ولعبهما دور الأخ والصديق إلى أن تعود مع أخيها فكرت إلى ألمانيا.

يصلح توصيف الفيلم باللطيف، والبعيد في الوقت نفسه عن إنتاجات السينما التركية التي تمضي نحو اللقطات الطويلة والرهانات البيئية والمقترحات التجريبية، إنه فيلم محتشد بالمشاعر الإنسانية وجماليات تقديمها في سياق متدفق ومتتابع في مدينة أنقرة، ولنكون في النهاية أمام يأس ليس بالعظيم، إنه اليأس اللطيف! زياد عبدالله

تويتر