‏‏‏«أفاتار» الفلسطيني والآلة العسكرية الإســـرائيلية

اشتباك السياســي بالسينمائي‏

فلسطينيون استخدموا رمزية «أفاتار» للتعبير عن معاناتهم. أ.ف.ب - أرشيفية

البحث هنا سيكون عن مجاورة السينما للسياسة أو اشتباكهما، وعلى شيء من نقاط التلاقي والافتراق، الهجاء والنقد واستخلاص المقولات، والتي تأتي من دوافع عدة مباشرة أو غير مباشرة، وعلى اعتقاد راسخ بأن كل فعل ثقافي يحتمل في جانب منه تأويلاً سياسيا حتى وإن كان لا يمت للسياسة بصلة بالمعنى الحرفي للكلمة، وللدقة فإن أي فعل ثقافي يأتي من حامل أيدلوجي خفي أو جلي، مقصود أو غير مقصود.

مقاربة السينما من خلال ما تقدم قد يقودنا على سبيل المثال إلى أن الأفلام السائدة حالياً والتي تحقق نجاحات كبرى على شباك التذاكر قد تبدو للوهلة الأولى أفلاماً ترفيهية تجارية، لكن مع اجتماعها على مقاربات متشابهة سيكون علينا الحديث عن مفهوم "الخطاب" والذي يتشكل دائماً وفق املاءات اقتصادية واجتماعية وسياسية.

أفلام صالات العرض التجارية هي دعوة متواصلة لتمضية ساعة ونصف أو ساعتين للترفيه والإثارة، وبعد ذلك لا شيء، في تعزيز لنمط الحياة الحديثة الذي يحول البشر إلى أرقام وآلات، لا شيء تقوم به إلا العمل وعليه يكون الترفيه ضرورياً في خدمة العمل، والابتعاد عن كل ما يسير تساؤلات قد تعيقه، طبعاً هذا يحدث تحت املاءات الانتاجات الهوليوودية التي سعت إلى تحويل المشاهد في العالم إلى مشاهد واحد لا يسعى إلا إلى الترفيه وفق تعريف واحد للترفيه لا يخرج عن الصيغة الهوليوودية، بالتزامن مع استثمار التطورات التكنولوجية التي ليس لأي صناعة سينمائية أن تنافس هوليوود في ذلك، وعليه صارت الطفولة أو الأطفال مرتبطين ارتباطا جذريا بسبايدر مان وبات مان وسوبر مان، وكل طفولة لا تمر بهؤلاء الخارقين هي طفولة معزولة عن العالم، ومعها المراهقة والكهولة بامتداد الإيقاع السينمائي إلى أفلام مصاصي الدماء والقتلة و"الأكشن"، والتي لا تستدعي اتخاذ موقف منها إلا لأنها صارت السينما كل السينما لدى المشاهد العادي، بعد أن كانت نمطاً من أنماطها، وكل ذلك وفق آليات تسويقية ماحقة.

بالانتقال إلى السياسة وارتباطها مباشرة في السينما، فهناك الكثير مما يحكى في هذا الخصوص، سواء الدعائية منها "البروباعندا" التي تحقر الأعداء وترفع الأصدقاء، بما يطال تحويلهم أي الأعداء إلى ذباب يتساقط برشاش بطل صنديد مثل رامبو أو غيره من أساطير السينما الأميركية بحيث يمسي الفيتناميون مجرد مخلوقات شريرة على سبيل المثال، مثلهم مثل الهنود الحمر الذي أبيدوا فكانوا في مئات الأفلام حفنة من الكائنات المتوحشة التي على البطل أن يبيدها.

لكن ثمة انقلابات سينمائية حصلت ضمن هوليوود على صعيد مقاربات كالتي سبق ذكرها، وإن كانت أفلاماً قليلة لكن مميزة تقف في وجه سيل أفلام جارف يتعقب الصور النمطية الجاهزة، وصولاً إلى "أفاتار" جيمس كاميرون مالئ الدنيا وشاغل الناس في هذه الأيام، والذي إن تمت مقاربته في سياق بعيد عن جمالياته وخروقاته البصرية فإنه يضعنا مباشرة أمام إقدامه على تقديم مقولة هامة بخصوص الحروب الأميركية، ولعل الإسقاط واضح بما لا يدفع مجالا للشك.

"أفاتار" في جانب أساسي منه هو هجائية للحضارة المتوحشة، للرأسمالية المنفلتة من عقالها التي تسيرها قيمة واحدة متمثلة بالربح والكسب المادي، مع قدراتها على تدمير شعوب بأكملها بغرض الحصول على ثرواتها ومقدراتها.

وفي جانب مواز فإن الحضور الأكبر سيكون هو لثقافة "الرجل الأبيض" أو "الواسب" الذي يتعامل مع أي شعب يقابله أو يقاوم تطلعاته الربحية بالآلة العسكرية، وعليه فإن مضي كاميرون خلف حياة السكان الأصليين وعاداتهم والتصاقهم بكوكبهم ليس إلا توطئة لما سيحل بهم على يد "الرجل الأبيض"، ولعل تسرب "الأفاتار" وخوضه حربا معاكسة يمنح رمزية كبرى لعدالة مقاومة هذه الشعوب لاجتياحات الآلة العسكرية الأميركية.

تأويل ذلك له ما يلاقيه على الأرض الآن، لا بل إن الفلسطينيين أول من تلقف هذا المعنى في مظاهرة احتجاجية تنكر أصحابها بشخصيات مماثلة ل "أفاتار" وفي رمزية تستدعي الإعجاب والتحية، ولعل تسرب هذه الأدوات الاحتجاجية إلى ثقافة المقاومة الفلسطينية أمر لافت منذ سنوات، كأن تغطي سماء القدس بالونات سوداء يطلقها أطفال فلسطينيين في ذكرى النكبة التي يقابلها إسرائيليا عيد الاستقلال.
مثال البالونات واحد من أدوات مقاومة رمزية كثيرة يستخدمها الفلسطينيون بذكاء، وبالعودة إلى "أفاتار" الفلسطيني في مظاهرات التنديد بالعدو الاسرائيلي وما تحمله من بلاغات كبرى، لها أن تضع المتلقي في العالم أمام حقيقة ساطعة متمثلة بأن ما حمله فيلم "أفاتار" هو تماماً ما حدث في فلسطين، حيث هجر وقتل شعب بأكمله وانتزع من وطنه في استجابة لتطلع "الرجل الأبيض" الذي لا يجد في الشعوب الأخرى إلا شعوبا بدائية لن يتردد بانتزاعها من أرضها إن اصطدمت بمصالحه، وعليه فإن الفلسطينيين مثلهم مثل سكان كوكب "باندورا" ، وتلويح "أفاتار" بالعلم الفلسطيني ليس إلا اسقاطاً واقعيا لما حمله الفيلم، فهو الساكن الأصلي الذي دمرت أرضه بآلة عسكرية متوحشة، وفي تواطؤ بين "الرجل الأبيض" والصهاينة، الأول يكفر عن خطاياها ومجازره مع الثاني على أرض الآخرين، بينما الثاني يعزز ذلك بالديني والغيبي والعنصري ويتحول إلى أداة تلبي تطلعات الأول، واعتبار فلسطين أرضاً بلا شعب، إدعاء مشابه تماماً لما كان سيحل بسكان كوكب "باندورا" لو تمت إبادتهم، كان سيقال إنه كوكب لا حياة فيه، ونحن الذين أوجدنا الحياة فيه.
 

تويتر