‏‏‏مجدي أحمـد علي.. «عصفـــــــــــــــــــــور النيل» السينمائي

الـتحـرر يـبـــــــــــدأ من المرأة ‏

«عصافير النيل» خطوة نحو الأمام في مسيرة مجدي علي. أرشيفية

‏‏للبؤس جمالياته التي لا تستدعي الاحتفاء بقدر ما يتخذ رصدها معبراً نحو التصدي لهذا البؤس، ولتكون هذه الجماليات خصائص تؤكد الاستعداد للانتقال بالحياة إلى واقع آخر له أن يكون بعيداً عن البؤس، ولعل حضور أفكار كهذه يأتي من مقاربتنا فيلم مجدي أحمد علي «خلطة فوزية» المعروض حالياً في دور العرض المحلية، والذي يأتي عرضه متأخراً كعادة دور السينما في الدولة مع الأفلام العربية، أو غيرها من أفلام لا تضمن ربحاً خارقاً ماحقاً، خصوصا أن مجدي أحمد علي صار تفصله سنتان عن «خلطة فوزية» وقد شاهدنا له في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي جديده «عصافير النيل».

ننسى ما تقدم ونلتزم بعرض «خلطة فوزية» الآن الذي سبق أن كتبنا عنه، ولنجد في ذلك معبراً لنا للحديث عن مجدي أحمد علي بين «خلطة فوزية» و«عصافير النيل»، من دون أن نعرف إن كان على المشاهد أن ينتظر أكثر من سنتين ليعرض الأخير.

خطوة إلى الأمام

علينا بداية التأكيد على أن «عصافير النيل» خطوة إلى الأمام في مسيرة هذا السينمائي المصري، ويمكن في تتبع لأفلامه التأكيد على أن إيقاع تجدده وتوقعه على الدوام، ولعل الأفلام التي قدمها تتخذ من الواقع مساحة سينمائية حيوية بالنسبة إليه، لكن مع منحه صيغة سحرية وتحميله هماً نقديا واضحاً، وعليه فإن «خلطة فوزية» يحتمل توصيفه بالفيلم الذي يؤنث البؤس، ويتمحور حول المرأة بوصفها مقررة لمصيرها، متحكمة في مصائرها ومن حولها، في إعلاء لصوتها على أصوات الذكورة الفجة التي توهمنا أفلام كثيرة أخرى بأنها هي السائدة والمتسيدة، وعليه فإن فوزية (إلهام شاهين) لا تكتفي بخلطتها العجيبة التي تتخطى المربى وما تطبخه إلى خلطة من الأزواج والمصائر والتي تكون في النهاية متمحورة حولها.

فيلم «خلطة فوزية» الذي كتبته هناء عطية يمضي إلى إضاءة من هي فوزية، عبر زواجها من أربعة رجال على التوالي وتطليقهم واحداً بعد الآخر، بعد أن يخلف لها كل واحد منهم ابناً أو ابنة، وعليه تكون فوزية نموذجاً لامرأة تمتلك قراراها، لها أن تتزوج وتطلق ساعة تشاء على عكس المتعارف عليه، وأمام هذه الاستثنائية تتوالى أحداث الفيلم في سرد رشيق وكوميدي، لحياة هذه المرأة التي تتواصل مع أزواجها السابقين عبر اجتماعهم في بيتها كل أسبوع، وفي حفاظ منها على تواصل أبنائها مع آبائهم، وتخصيص لكل واحد منهم ما تمليه ذكرياتها معه كأن تطبخ له ما يحب، وعلى شيء من الدور الذي يطال كل أسبوع واحداً منهم تكون الطاولة حاملةً لطبخته المفضلة.

المرأة التي تجسد فوزية رمز استقلالها الاقتصادي والاجتماعي، تمتد إلى نساء أخريات لكن كنماذج مغايرة لكن محتفى بها، مثل الراقصة المتقاعدة (نجوى فؤاد)، والمرأة الساعية للزواج (غادة عبد الرازق) والتي تسأل فوزية أن تتقاسم معها زوجها (عزت أبو عوف) ومن ثم تتزوجه لكنه يلقى رصاصة طائشة أثناء الزفاف، فيبقى طيفه حاضراً وفي يده وردة حمراء هو الذي يعشق رشدي أباظة ويحمل صورة موقعة منه.

«العشوائيات»

الشخصيات التي يقدمها «خلطة فوزية» تعيش جميعاً في «العشوائيات» التي أصبحت مجالا حيويا للسينما المصرية، لكن ليختلف الأمر تماماً في مقاربة مجدي أحمد علي لها، فهنا المسعى ليس لتثبيت واقع تلك المناطق المسكونة بالفقراء فقط، بل ليقدم مقترحاً جماليا بخصوصها، ويعالجها بواقعية سحرية تدفع لأن تهطل من السماء أمطار من التوت، والأهم من كل ذلك ابتعاده عن المحاكمات الأخلاقية السخيفة التي تقع فيها أفلام كثيرة أخرى، تتخذ من فجاجة الواقع استثمارا سياحيا تشويقيا لا أكثر ولا أقل، وتقسيما تعسفيا وسطحيا للشخصيات إلى خيرة وشريرة مثلما هي الحال مع خالد يوسف وسامح عبدالعزيز.

ولعل فيلم «خلطة فوزية» كان يطمح لتقديم أكثر مما قدم، خصوصا حين تخونه التقنية في تقديم مشهد مثل طيران ابن فوزية بكرسيه المتحرك ووفاته.

مع «عصافير النيل» يحضر كل ما تقدم لكن بتتماسك أكبر وبنية أشد إحكاماً، وبإيقاع مشغول بعبدالرحيم (فتحي عبدالوهاب) شخصية رواية إبراهيم أصلان الشهيرة المأخوذ عنها الفيلم، والتي عالجها مجدي أحمد علي بحرية كبيرة، واستثمر في معطياتها لتقديم بانوراما سياسية واجتماعية واقتصادية لمصر الثورة وما بعدها، لا بل إن العودة لقراءة الرواية ومن ثم مشاهدة الفيلم ستضعنا أمام إضافات كثيرة حملها سيناريو الفيلم على الرواية.

وعليه سنقع على عبدالرحيم المجسد لكل خصال المصري الطيب والفلاح الذي تطحنه عجلة المدينة، وسنشاهده يلهث خلف لذاته، ويبقى على ما هو عليه من عفوية وطيبة، دون أن يفارق اخته (دلال عبدالعزيز) التي تشكل نقطة العودة الأبدية، ومعها زوجها الطيب والشهم السيد البهي (محمود الجندي)، ولكل منهما حياته ومعاناته، الأخت تخاف العتمة وتسأل زوجها أن يمد لها ضوءاً في قبرها ولو لمدة أسبوع، لكن الزوج يموت قبلها بعد أن يمضي آخر سنين حياته في كتابة الرسائل إلى المسؤولين بما فيهم رئيس الجمهورية الذي يخاطبه بأنه خدم الثورة بعدم تبليغه عن مراسلات الضباط الأحرار التي كان يلاحظ تواترها وعناوينها، وكل ذلك لتصحيح خطأ تقاعده المبكر وتقليل راتبه.

احتفالية بالحب

كل ما تقدم نقرأه في رواية أصلان، لكن البناء الدرامي سيكون مختلفاً تماماً، سيأخذنا الفيلم إلى جيل ثان، سيضع التشدد في وجه اليسار، أو اليسار السياسي المحاصر من المتشددين والسلطة في آن، وسيتخذ من «الفلاش باك» بنية الفيلم الرئيسة لكن في تنظيم أكبر للأحداث عنها في الرواية.

وليكون الفيلم احتفالية بالحب، ورصدا للعلاقات الاجتماعية وهي تخطئ وتصيب، كما هي حال عبدالرحيم مع حبه الأول (عبير صبري) الذي يقدم في الفيلم بشاعريــة كبــيرة فهي المرأة الأولى التي ذاق معـها طعــم الحب، ولتتبخر من حياتــه وهــو يعيــش معها تناقضاً صارخاً، لا لشيء إلا لأنها امرأة حرة لا تبالي بما يقوله من حولها، وانحيازها كاملاً لحبه وتنعمها بالحياة والفرح، الأمر الذي يصعب على عبدالرحيم فهمه، فهو القادم من القرية.

فتش عن المرأة دائماً مع مجدي أحمد علي، إنها المعبر والتي تحدد حالة المجتمع، وبكلماتنا وعلى هدي ذلك، فإن أي فعل تحرري هو في الضرورة تحرري مع المرأة.‏

"خلطة فوزية" عرض فى الدوره الأخيرة بمهرجان دبى السينمائى
عبير صبرى فى فيلم "عصافير الليل"

 

تويتر