تم تقديمهم إلى عائلات بلا أطفال.. أو رحلوا إلى عائلات يهودية في أميركا

مئات الأطفال اليمنيين اليهود خطفـوا من عائلاتهم في إسرائيل قبل 70 عـاماً

صورة

كانت العجوز يونا يوسف (84 عاماً)، تبدو مفعمة بالحياة، وكانت عيناها تلمعان، كلما بدأت بالحديث عن أطفالها التسعة وأحفادها الكثر. لكن عندما تسأل عما حدث قبل 67 عاماً ماضية، عندما وصلت مع عائلتها إلى إسرائيل قادمة من اليمن، تمتلئ عيناها بالدموع. تقول يونا «كنت في سن الخامسة عشرة، عندما جاء أشخاص وطلبوا مني أن آخذ سعيدة إلى العيادة». وانحبس صوتها عندما تذكرت اليوم الذي أخذت فيه أختها غير الشقيقة، البالغ عمرها أربع سنوات لتخضع لفحص روتيني، يقوم به جميع الواصلين الجدد إلى إسرائيل. وأضافت: «في العيادة أبلغوني بأن أرجع إلى المنزل، وقالوا لي إنهم سيعيدونها لي، وأنا لم أكن أعرف شيئاً، فقد كنت مجرد طفلة»، ولم ترَ يونا شقيقتها مرة ثانية.

رفع الحصانة

عملت ثلاث لجان حكومية، خلال تسعينات القرن الماضي، على التحقيق في هذه القضية الشائكة، بيد أنها خلصت جميعها إلى أن معظم هؤلاء الأطفال توفوا نتيجة المرض، وربما قلة منهم تم تبنيهم. وترفض معظم العائلات قبول النتائج التي توصلت إليها تلك اللجان. وفي شهر يونيو الماضي، قال رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إنه «رفع الحصانة» عن قضية خطف الأطفال، وعين الوزير الإسرائيلي بلا حقيبة تساحي هنيغبي، لإعادة فتح الملفات لاكتشاف الحقيقة. وقال نتنياهو «إن قضية الأطفال اليمنيين تمثل جرحاً مفتوحاً، يواصل النزف لدى العديد من العائلات، الذين لم يعرفوا ما حدث لأطفالهم الذين اختفوا».

وكالعديد من المهاجرين اليمنيين في ذلك الوقت، عاشت يونا مع عائلتها في مخيم مؤقت، بعد وصولهم إلى إسرائيل عام 1949، وكان يعيش معها والدها وزوجته الثانية، إضافة إلى سعيدة. وخلال 70 عاماً خلت، بات الإسرائيليون يألفون حكايات المهاجرين اليهود الذين جاؤوا من البلاد العربية، والذين يقولون إن اطفالهم اختفوا ببساطة، وربما تم خطفهم في نهاية الأربعينات من القرن الماضي وبداية الخمسينات، بعد وقت قصير من وصولهم إلى إسرائيل.

وفي بعض الحالات، كان هؤلاء الأطفال يؤخذون إلى الرعاية الطبية، ولا تتم إعادتهم، ولا تراهم عائلاتهم مرة أخرى. وفي حالات أخرى، كان الآباء يبلغون بأن أطفالهم توفوا بصورة مفاجئة. وحسب بعض النظريات، فإن هؤلاء الأطفال كانوا يسلمون إلى عائلات ليس لديها أطفال، وربما من الناجين من المحرقة النازية، الذين لا يستطيعون الإنجاب، ويعتقد آخرون أن هؤلاء الأطفال ربما تم ترحيلهم إلى عائلات يهودية في الولايات المتحدة.

ويُرجع الذين درسوا هذه الظاهرة الغامضة ما حدث إلى عملية بناء «الدولة» الحازمة، التي تبنتها النخبة الحاكمة في ذلك الوقت، وهم من اليهود البيض الأوروبيين، وربما للنظرات الفوقية التي يحملها هؤلاء نحو المهاجرين الناطقين باللغة العربية وغير المتعلمين، الذين وصلوا إلى إسرائيل ولديهم العديد من الأطفال، لكنهم كانوا معدمين، وربما اعتقد آخرون أنهم إذا أخذوا الأطفال، فإنهم سيساعدون هذه العائلات عن طريق منح أطفالهم حياة أفضل.

ويرى كثيرون أن موظفين حكوميين وأطباء وممرضين، وموظفي رعاية اجتماعية ومسؤولين حكوميين، شاركوا في هذه العمليات. لكنْ حتى الآن لم يتم التوصل إلى جواب عما إذا كانت عملية خطف الأطفال من أهاليهم كانت تتم بأوامر من مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى.

وفي الشهر الماضي، قال الوزير الإسرائيلي بلا حقيبة، تساحي هنيغبي، لإحدى محطات الأخبار، إنه بعد النظر إلى مواد من تحقيقات حكومية تتعلق بهذه القضية، فإنه أصبح مؤكداً الآن أن مئات من الأطفال اليمنيين كانوا يخطفون من أبويهم، على الرغم من أنه لم يتمكن من البوح بالسبب، أو إلى أين كان يتم أخذهم. وكان إعلان هنيغبي قد منح الأمل للعديد من العائلات، التي لطالما لم تلقَ ادعاءاتهم خطف أطفالهم، آذاناً مصغية. وقال آفي يوسف ابن يونا، الذي ترعرع، وهو يسمع الكثير عن سعيدة واثنين من الأطفال من أبناء خالته، وهي الشقيقة الكبرى لأمه، الذين اختفوا وهم يعيشون داخل مخيم مؤقت: «نعتقد أن (الدولة) عليها أن تقدم لنا الأجوبة التي نريدها، ونحن نعرف أن الأطفال اختفوا، وسعيدة اختفت من يدي أمي».

وقالت الصحافية السابقة يائيل تسادوك، التي شاركت في تحقيقات القضية منذ أكثر من 30 عاماً، عندما بدأت إجراء المقابلات مع أمهات الأطفال اليمنيين على برنامجها الإذاعي، معلقة: «من الواضح أنه تم ارتكاب جريمة مهولة هنا على نطاق غير مسبوق، والدولة لا تريد الكشف عن ذلك». وأضافت «من الصعب سماع هذه القصص، وأنا لا أنام ليلاً جراء هذه القصص، وكان من الواضح بالنسبة لي أن هؤلاء الآباء يقولون الحقيقة، كما توافر لديَّ العديد من الشهود الذين يقولون إن هؤلاء الأطفال أخذوا من آبائهم»، وتعمل تسادوك الآن مع منظمة «الأخوة لايزالون موجودين» غير الربحية، التي تم إنشاؤها لإماطة اللثام عن الحقيقة، والبحث عن الأبناء الغائبين. ولاشك في أن من بقي على قيد الحياة من هؤلاء الأطفال سيكون الآن قد بلغ 60 أو 70 عاماً من العمر.

وأحد هؤلاء الأطفال تسفي أميري، الذي اكتشف عندما كان في الثلاثين من عمره أن والديه اللذين يعرفهما ليسا والديه الحقيقيين، وإنما هما من تبنياه، ومن ثم بدأ رحلة البحث عن والديه البيولوجيين. وقال أميري، الذي أصبح عمره الآن 64 عاماً: «لطالما كانت تخالجني مشاعر بأن أمراً غير صحيح في حياتي، وكان والداي يتنقلان من مكان إلى آخر، وكنت أسمع دائماً أنني ابنهما بالتبني، لكن عندما اعترف والدي بذلك صراحة، بدأت البحث عن والديَّ الحقيقيين».

وبمساعدة محامٍ، حصل أميري على ملف تبنيه، واكتشف أنه ولد من والدين مهاجرين من تونس. واكتشف من هي أمه التي ولدته، بيد أنها تقيم في مصحة عقلية الآن، وربما خسارة ابنها بالنسبة لها كانت ثقيلة حسب ما قال أميري. كما أن الوثائق التي عثر عليها في ملف تبنيه مثل إعلان أمه أنها كانت قد عرضته للتبني، كلها دون توقيع، وإنما ثمة بصمة إبهام، أقنعته بأنه أمراً ما كان يجري بالسر. وقال أميري: «إذا كانت لا تعرف كيف تكتب اسمها، فكيف يمكنها أن تعرف على ماذا وضعت إبهامها».

قلة هم الأطفال الذين تم تبنيهم، وتمكنوا من العثور على عائلاتهم الحقيقية، إذ لم تكن العائلات التي فقدت أطفالها مسموحاً لها بالوصول إلى الملفات. وثمة منظمة غير ربحية تسمى «أمرام» تقدم المساعدة في مثل هذه القضايا، حيث وضعت قائمة بمئات العائلات على موقعها. وهناك العديد من قصص أطفال حديثي الولادة، تم أخذهم إلى وحدات خاصة، لكن بعد بضعة أيام أبلغت أمهات هؤلاء الأطفال بأنهم توفوا، وهناك قصص عائلات لديها أطفال غير مواليدها الجدد، إذ طلب منهم التخلي عنهم من أجل التبني، والعائلة التي كانت ترفض هذا الطلب، تبلغ بعد بضعة أيام بأن طفلها توفي.

وقالت عضو الكنيست الإسرائيلي، نوريت كورين، التي تترأس جماعة الضغط في البرلمان لصالح العائلات التي سرق أطفالها، إن لديها أكثر من 1000 ملف قضية تفصل كيف اختفى أطفال، إضافة إلى معلومات عن مئات العائلات، التي ادعت فقدان أطفالها منذ عقود. وتعمل كورين على إنشاء قاعدة بيانات الحمض النووي (دي.إن.أي»، لمساعدة الأطفال على العثور على آبائهم البيولوجيين، لكن عند طلبهم فقط. وقالت كورين: «لا ندري ما الذي حدث بالضبط، لكن كلما جمعنا معلومات أكثر، زادت فرص العثور على هؤلاء المفقودين».


فيلم وثائقي

في فيلم وثائقي بعنوان «وسط طريق باتجاه واحد»، تظهر الممرضة السابقة سارة بيرل، من منظمة النساء الصهيونية العالمية، وهي تقول التالي: «كانوا باستمرار يجلبون لنا أطفالاً صغاراً ومرضى، وحالما يعالجون ويشفون يأتي من يأخذهم، لقد كنا مشغولين بهذا العمل بصورة دائمة، لكنّ الآباء البيولوجيين لهؤلاء الأطفال لم يظهروا أبداً، وإنما أشخاص آخرون جاؤوا لأخذهم»، وأكدت بيرل أنها عندما سألت مديرتها عن سبب عدم قدوم الآباء لزيارة أطفالهم، تلقت الجواب التالي: «آباؤهم لديهم الكثير من الأطفال، والكثير من المشكلات، لذلك فإنهم لا يريدونهم».

وقدمت حنا جيبوري، وهي عاملة في الرعاية الاجتماعية في الفترة ما بين 1948 و1954، ورئيسة خدمات التبني في منطقة أطلق عليها «نورث ديستركت»، شهادتها أمام لجنة تحقيق حكومية، أفادتها بالقول «قدم أطباء المستشفى أطفالاً من أجل التبني لأطراف خارج المستشفى بصورة مباشرة، دون إخطار ومشاركة الجهات المسؤولة عن التبني». وأشارت جيبوري إلى أنه إذا كان هناك طفل تحت عنايتها، ولم يسأل عنه أحد، كان يقدم إلى عائلة لتتبناه بصورة غير رسمية». ووصف رئيس خدمات التبني في حينها، إتش. لايبوفيتز، ما يجري في أحد اجتماعات اللجنة العامة للتبني عام 1959، بقوله: «ثمة تبنٍ بسياسة الأمر الواقع، وكان هناك أطفال في عهدة نظام الرعاية الصحية، وآخرون تم وضعهم لدى طرف ثالث، وهناك أطفال سلموا إلى آبائهم الحقيقيين، وهؤلاء قلة قليلة».

وفي جلسة عامة للكنيست في عام 1959، دعا العضو بن تسيون هاريل الأشياء بمسمياتها، عندما قال: «نسبة كبيرة من الأطفال تم تبنيهم مباشرة من المستشفى، أو من مركز رعاية الأمومة، وفي بعض الحالات كان يتم ذلك بطريقة غير مقبولة، حيث يتم تهريب الأطفال عبر الحدود».

وتؤكد حالات الخطف المذكورة، تلك الرسالة التي بعث بها مدير أحد المستشفيات ، إلى مستشفيات مدينة حيفا، والتي قال فيها: «هناك حالات لفتت انتباهنا لأطفال أخرجوا من المستشفى، لكن لم يعودوا إلى حضانة آبائهم، من الواضح أن هناك عائلات تعمل على تبني هؤلاء الأطفال وبسرعة، الأمر الذي يجعل آباءهم الحقيقيين يبحثون عنهم، وأنا واثق أنكم تتفقون معي في أنه ليست هناك حاجة لأشرح لكم أنه يقع على عاتقنا بذل كل الجهود الممكنة، لمنع حدوث مثل هذه الحالات، ويجب على إدارة المخيمات أن تكون مسؤولة عن عودة الأطفال إلى آبائهم».

قصة تبنٍّ

ولد يهودا كانتور، في خمسينات القرن الماضي، وهو من أصول يمنية، واكتشف أمر تبنيه من قبل العائلة التي يعيش معها، عندما كان في سن 24 عاماً. وكانت عائلته بالتبني قد أخفت عنه هذا السر، وواجههم بالحقيقة عندما اكتشفها. وعندما فتح ملف تبنيه، وجده فارغاً إلا من صفحة واحدة، كتب عليها «تخلت عنه أمه، من أجل تبنيه من قبل عائلة أخرى»، ولم يسمح لكانتور بالحصول على نسخة من الوثائق واضطر لنسخها باليد، وأمه التي ولدته غير موجودة حالياً، وتوقيعها مفقود.

ولا يملك كانتور شهادة ميلاد، وتحوي وثيقة التسجيل لدى والديه بالتبني تفاصيل قليلة لا تقود إلى شيء، وعلى الرغم من توقه الشديد لمعرفة والديه البيولوجيين، إلا أن كانتور لم يتمكن من العثور عليهما. وتوقيعه الوراثي موجود لدى أحد المختبرات الأوروبية، وأي شخص يريد التحقق منه مرحب به في أي وقت، من قِبَل هذا المختبر.

تويتر