مدن الضفة الغربية تشهد اقتحامات مكثفة للمستوطنين في 15 عيداً يهودياً

حرب المقامات الدينية.. بين الروايــة التاريخية وادعاءات المستوطنين

صورة

(أم جمال) سيدة فلسطينية تعيش مع أطفالها الأيتام بجوار أحد المقامات الثلاثة في بلدة «كفل حارس» شمال مدينة سلفيت بالضفة الغربية، وهو مقام «ذي الكفل» ابن سيدنا أيوب عليه السلام كما يقول المؤرخون.

وتتعرض أم جمال كالآلاف من سكان البلدة لمنغصات ومضايقات المستوطنين، الذين يقتحمون القرية بذريعة الصلاة في المقامات، لكنهم يعبثون بها، فيحطمون القبور وشواهدها، بالإضافة إلى دهم المنازل والسكان، وتحطيم ممتلكاتهم العامة والخاصة، وكتابة شعارات معادية على الجدران.

وإلى جانب مقام «ذي الكفل»، يوجد في بلدة «كفل حارس» مقامان يعودان لجوهر بن عبدالله، أحد خدم القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، وقبر النبي يونس ذي النون، إلا أن الاحتلال يدعي أنهما لـ«يوشع بن نون» قائد جيش النبي يونس وابن اخته وخليفته.

واستناداً لتلك المزاعم، يقتحم المستوطنون المقامات الدينية في أكثر من 15 مناسبة دينية يهودية، لإضفاء الروايات التوراتية على تاريخ وحضارة الفلسطينيين.

وتقول أم جمال لـ«الإمارات اليوم»: «يقتحم المستوطنون سكان مستوطنة (إيتمار) المقامة على أراضينا ومستوطنات أخرى قريبة بلدتنا في الساعة 12 منتصف الليل، ويستمرون حتى الصباح، إذ يمارسون طقوساً غريبة، ويصدرون أصواتاً مزعجة نتيجة النفخ في الأبواق».

وتضيف: «أثناء ممارستهم لطقوسهم يعتدي المستوطنون على كل فلسطيني يشاهدونه، وفي طريق عودتهم إلى المستوطنات يحطمون السيارات في الشوارع، ويلقون الحجارة والزجاجات الحارقة على منازلنا».

ونجا ابن أم جمال في نهاية العام الماضي من الموت بأعجوبة، إذ ألقى المستوطنون زجاجات حارقة على منزلها بعد اقتحامهم لبلدة «كفل حارس»، وتعرض حينها لإصابات بالغة.

الروايات الحقيقية

مخاوف

يخشى الفلسطينيون من ضم المقامات التاريخية في مناطق الضفة الغربية كافة إلى التراث اليهودي كما حدث في الحرم الإبراهيمي، وقبر راحيل في مدينة بيت لحم، حيث أقيمت المستوطنات والبؤر الاستيطانية والحواجز العسكرية بدلاً من هذه المقامات الدينية.

ويعد قبر راحيل في بيت لحم بناء مملوكياً، ومقاماً إسلامياً على شكل قبة، وهو منسوب إلى راحيل - والدة النبي يوسف عليه السلام - وتقع على الطريق بين القدس والخليل، وبمحاذاتها المقبرة الإسلامية في بيت لحم، وذلك بحسب المؤرخ الفلسطيني والباحث في الآثار الدينية أحمد قيشاوي.

ويقول قيشاوي لـ«الإمارات اليوم» معلقاً: «بعد اتفاق أوسلو عام 1994 بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، والذي تمكن بموجبه الاحتلال من السيطرة على مدن عدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، تحول موقع قبر راحيل إلى نقطة تماس بين المناطق التي تسيطر عليها السلطة، وتلك التي تسيطر عليها إسرائيل».

ويضيف: «خلال انتفاضتي النفق عام 1996 والأقصى عام 2001، أصبحت المنطقة ساحة مواجهة بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال، وعلى مسافة قريبة منها سقط العديد من الشهداء والجرحى».

وبعد ذلك أجرت قوات الاحتلال تغييرات كبيرة على المنطقة، فعزلتها عن محيطها الفلسطيني، وأحاطتها بالأسوار والأبراج العسكرية، وأغلقت شارعي القدس والخليل، وأبقتها خارج المناطق الفلسطينية، بعد إقامة الجدار الفاصل بين القدس وبيت لحم.

وكان الاحتلال قد حوّل قبر راحيل إلى حاجز عسكري يفصل بيت لحم عن مدينة القدس، حيث وضعت بوابات عسكرية كبيرة، معززة بقوات من الجيش الإسرائيلي، وذلك بحسب قيشاوي.


- أثناء ممارستهم لطقوسهم يعتدي المستوطنون على كل فلسطيني يشاهدونه أمام أعينهم، وفي طريق عودتهم إلى المستوطنات يحطمون السيارات الموجودة في الشوارع، ويلقون الحجارة والزجاجات الحارقة على المنازل.

- خشي الفلسطينيون من ضم المقامات التاريخية في مناطق الضفة الغربية كافة إلى التراث اليهودي، كما حدث في الحرم الإبراهيمي، وقبر راحيل في مدينة بيت لحم، حيث أقيمت المستوطنات والبؤر الاستيطانية والحواجز العسكرية بدلاً من هذه المقامات الدينية.

المزاعم الإسرائيلية حول تلك المقامات تدعي أنها تعود إلى أنبياء يهود، ما يقود الاحتلال خلال الأعياد التوراتيّة واليهوديّة الى فرض حظر التجوال على الفلسطينيين، ليقتحم المستوطنون القرية بحماية قوات الجيش، لتأدية طقوسهم الدينية، فيما يتطور الأمر في مناطق أخرى للسيطرة عليها.

وعن ذلك يقول المحاضر في جامعة القدس بمادة التوراة، أحمد رفيق عوض، «تاريخياً لا يوجد علاقة دينية بين المقامات في الضفة الغربية وبين التوراة والحكاية التوراتية إطلاقاً، فهذه الأماكن لها حكايتها التاريخية التي تعود بمعظمها إلى العصور المملوكية، في حين أن التوراة كتبت خلال الأسر البابلي، كما تشير معظم الروايات التاريخية قبل ذلك بكثير».

ويضيف أن «الفلسطينيين لا مشكلة لديهم مع الديانات الأخرى، ولكن ما يجري في العادة أن إسقاط هذه الروايات على الأماكن تتبعها بالضرورة مصادرة واستيطان وسيطرة على الأرض، فالاحتلال ينهب الأرض الفلسطينية شيئاً فشيئاً وبكل الوسائل، منها الادعاء بأن أي قبر قديم يعود لأحد أجدادهم أو الأنبياء، والحقيقة لا تمت لذلك بصلة لا من قريب ولا من بعيد».

وفي ما يخص الرواية التاريخية الصحيحة لهذه المقامات، يوضح عوض أن هذه المقامات الثلاثة تعود إلى الفترة الصليبية في القرنين الـ17 والـ18.

ويوضح أن من أسباب انتشار هذه المقامات وقوع البلاد تحت وطأة الاحتلال الصليبي، الأمر الذي دفع السكان لتأسيس المزارات الدينيّة، وإعادة ترميم بعضها، كرد فعل لمحاولة نشر الديانة المسيحية في الأراضي المحتلة.

وبحسب عوض، أقام الحكام خلال الفترة الأيوبية والمملوكية المزارات والمقامات والزوايا، في محاولة لربط الأهالي بالإسلام، وتحفيزهم للدفاع عن الأرض، فهذه الزوايا بمعظمها كانت أماكن يتعبد فيها الصالحون، خصوصاً في الفترة الفاطمية، إضافة إلى مقامات الصحابة الذين حاربوا في فلسطين، وبعض المقامات يعود إلى أنبياء ورد ذكرهم في القرآن، وآخرين لم يرد ذكرهم. كما كانت هناك مقامات منسوبة إلى آل البيت والصحابة، وأخرى إلى العلماء والصالحين المحليّين.

أرض المقامات

اقتحام المقامات الدينية التاريخية من قبل المستوطنين ليس في «كفل حارس» فقط، فحرب المقامات دائرة في جميع أراضي الضفة الغربية بين الفلسطينيين والمستوطنين، في محاولة للسيطرة عليها باسم الدين، وبالتالي يسهل عليهم الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية المحيطة بها.

فقرية عورتا شرق مدينة نابلس والمعروفة بأرض المقامات، تشهد منذ سنوات عدة مواجهات شرسة من قبل المستوطنين، بحماية جنود الاحتلال أثناء اقتحامهم المقامات الدينية الموجودة بها، والتي يبلغ عددها 12 مقاماً تاريخياً.

وتعاقب على حكم عورتا، وهي بلدة كنعانية، العديد من العصور الإمبراطورية والبيزنطية والخلافة الإسلامية خلال الحكم العثماني، وبين القرنين الرابع والـ12، كانت القرية مركزاً سامرياً مهمّاً لاحتوائها على مقامات أغلبها إسلامي، منها مقام الشيخ الزعبي في مقبرة عورتا، ومقام سبعون عزيرات (سبعون شيخ)، ويعتقد بأن 70 نبياً أو 70 شيخاً مدفونون فيها، وكذلك مقامات الشيخ سرور، والشيخ العجمي، وهم الأولياء العجم الأربعة، بالإضافة إلى مقام العُزير، وقبر حوشا، ومقام المُفضل، ويوشع بن نون، ومقام بنات الرفاعي الشيخ رباع.

ودفع هذا الارتباط التاريخي بين المقامات وأرض فلسطين الاحتلال للتخطيط لسرقتها، ومحاولة تغيير طابعها الإسلامي والعمل على تهويدها، ليدعم روايته بملكية الأرض، وتكون مقدمة لتمدد استيطانه.

وعن ذلك يقول رئيس مجلس قروي بلدة عورتا سامي عواد، لـ«الإمارات اليوم»، معلقاً: «إن الخطورة في هذا الأمر هي عدم قدرتنا على ترميم هذه المقامات، وإبقائها تحت الوصاية الصهيونية، علماً بأن صراعنا مع الاحتلال صراع على الأرض، فهو يحاول إيجاد أي رواية تثبت أحقيته بالأرض، وهو ما وجده بتزوير التاريخ، والمقامات جزء من هذا التاريخ».

ويوضح أن المقامات الدينية في عورتا شيدت وأعيد ترميم بعضها بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين وتحرير بيت المقدس، لافتاً إلى أن العمر الحجري لهذه المقامات هو ما بين 700 و800 سنة في فترة العهد المملوكي.

وتشهد بلدة عورتا، بحسب عواد، اقتحامات لمئات المستوطنين في ساعات منتصف الليل، وبحماية جيش الاحتلال، تفرض فيها القوات حالة من حظر التجول، وتسيطر فيها على كل أرجاء البلدة، بحجة القيام بطقوس دينية عند هذه المقامات.

ويضيف: «هذه الاقتحامات هي مقدمة لإقامة بؤر استيطانية على أراضي ومنازل المواطنين، كما هي الحال في مدينة الخليل المحتلة».

من جهة أخرى، يصف المواطن محمد قواريق، أحد السكان القريبين من مقام المفضل في عورتا، اقتحامات المستوطنين للمقامات بحرب من طرف واحد، حيث يعتدون على السكان المجاورين للمقامات، ويحطمون ممتلكاتهم، بالإضافة إلى إزعاجهم وحرمانهم من النوم طوال الليل.

ويقول: «يقتحم المستوطنون القرية بعد منتصف الليل، وعلى الفور يغلقون الشوارع، وإذا كانت هناك مركبة على جانب الشارع يحطمونها، فيما يعتدون على أي مواطن يشعل أضواء منزله».

ويضيف: «أثناء اقتحام المقامات لا أستطيع النوم، وأبقى يقظاً متنقلاً من نافذة إلى أخرى لحماية أطفالي من مغبة تكرار جريمة حرق عائلة دوابشة من قبل المستوطنين».

تويتر