الاتصال التفاعلي وتحفيز الإبداع

التوق للتقدم سمة الشعوب عامة من دون استثناء، لكن تحقيق التقدم يحتاج إلى جهد كبير، وإلى الكثير من المحفّزات التي تقدمها الجهات المسؤولة لمواطنيها ومؤسساتها، بل يجب أن يصبح التحفيز سياسة عامة ومنهجاً ثابتاً وشكلاً من أشكال العلاقة بين المؤسسة والمواطن، لضمان استمرارية التقدم، واكتساب المهارات في مجالات العمل كافة، وفي مقدمها الاتصال الذي انتقل من كونه حالة تلقائية طبيعية إلى علم أساسي من العلوم الإنسانية.

على أساس هذه النظرية، انطلقت مبادرة جائزة الشارقة للاتصال الحكومي، لتكون آلية لرصد أفضل ممارسات الاتصال، وأداة لتطوير هذه المهارة والارتقاء بها بما يتناسب مع التحولات والمستجدات التي تشهدها الساحة المحلية، وحتى الساحتان الإقليمية والعالمية.

إن الهدف الأساسي من عملية الاتصال الحكومي الناجح، تحقيق التوافق بين السياسات الرسمية من ناحية، والأهداف التي تضعها المجتمعات لذاتها من ناحية ثانية. وعلى مرّ عقود طويلة، إن لم يكن قروناً، كان تحقيق هذا التوافق الشغل الشاغل لذوي الاختصاص في مؤسسات الحكم والمؤسسات الرديفة لها، وكانت القناعة بأهمية تطوير هذه العلاقة تتعمق بعد كل تجربة تاريخية، فمهمة الحكومات رعاية مواطنيها وتوفير المقومات الضرورية كافة ليس لاستمرارية الحياة فقط، بل لتطورها أيضاً.

والتطور يعني التحديث المتواصل للقطاعات الحيوية، مثل التعليم والصحة والبنية التحتية والخدمات المقدمة للمواطنين، بالإضافة إلى حزمة كبيرة من التفاصيل الأخرى ذات العلاقة بالاستقرار الاجتماعي والهوية الوطنية والانتماء.

وحتى تحظى سياسات تحديث القطاعات الحيوية بدعم المواطنين، يجب أن تصلهم مساعي حكوماتهم ونواياها وتصوراتها حول مستقبلهم بشكل واضح، وأن يكون الاتصال الحكومي مساحة لتبادل الآراء بين الطرفين، وأرضية لشراكة استراتيجية قائمة على معرفة كل طرف بطبيعة دوره، وأين يمكن أن يضع جهوده بما يتوافق مع السياسات الرسمية للمرحلة.

لهذا السبب انتقلنا من رصد ممارسات الاتصال من طرف واحد، إلى رصد وتشجيع التفاعل بين طرفي الاتصال، لأن تعميم السياسات والقرارات من قبل المؤسسات الرسمية والخاصة من فوق، لم يعد اليوم كافياً لنجاح هذه السياسات، فالمجتمعات مملوءة بالمواهب والخبرات والأفكار الجديدة، والتفاعل بين المؤسسة والمواطن يمنح المؤسسة مخزوناً هائلاً من الأفكار والبرامج والمشروعات التي يمكن الاستفادة منها في سنِّ السياسات وفي تطوير دورها لريادة العمل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

من ناحية ثانية، نحن نعتبر أن الهدف النهائي من أي سياسة أو قرار مهما كان مصدرهما، هو خدمة الوطن والمواطن، فكيف يمكن لهذه الخدمة أن تتم دون إشراك المواطن ذاته في وضع تصوراته لما يريد أن يكون عليه مستقبله؟ ونعتبر أيضاً أن متطلبات النمو والتنمية في هذا العصر بالذات لا يمكن أن تتحقق من دون تعاون حقيقي بين الحكومات والمجتمعات، بين المؤسسة والفرد، فالمجتمعات هي قوة العمل والإنتاج، وهي مصدر الطاقة الإبداعية في العديد من المجالات، بما فيها الثقافة والآداب والفنون، وهذه المجالات شكّلت عبر التاريخ أحد أهم ملامح تقدم الأمم وتحضرها.

إن التوافق بين السياسات الرسمية ورغبات المواطنين يتجاوز في أهميته مسألة التعاون لتحقيق التنمية وشموليتها، وتبرز أهميته القصوى عند الحديث عن الأزمات التي تمر بها المجتمعات.

جميعنا نذكر الخطاب الذي ألقته ألين جونسون سيرليف، رئيسة جمهورية ليبيريا، خلال المنتدى الدولي للاتصال الحكومي، الذي قالت فيه إن حكومتها واجهت صعوبات كبيرة في السيطرة على وباء إيبولا في البدايات، وعندما أشركت المجتمع الليبيري في مواجهة الوباء، تمكنت الحكومة من السيطرة عليه، ومن تحقيق نتائج إيجابية كبيرة على صعيد رصده ومحاصرته، ما كان لها أن تتحقق لو بقيت الحكومة بمفردها في مواجهته.

لا نحتاج إلى الأزمات حتى ندرك أهمية التوافق بين السياسات الرسمية وتطلعات المجتمعات، فمهمة الاتصال الحكومي ليست التعاطي مع الأزمات وقت حدوثها فقط، بل الحرص على ألا تحدث من الأساس إن أمكن، باستثناء الأزمات الناتجة عن الكوارث الطبيعية، فهذه الأزمات يمكن التخفيف من نتائجها وتداعياتها بوساطة الاتصال والتفاعل، لكن لا يمكن تلافيها.

وتجاوز الأزمات يحتاج إلى مختبر لقراءة عوامل الواقع ورصد اتجاهاته واتخاذ التدابير الوقائية اللازمة، وهذا المختبر مكون من علاقات يعززها الاتصال، علاقات قائمة على التبادل بين أطراف عدة، وليس على طرف واحد.

لا نريد أن نبتعد كثيراً لاستحضار نماذج ناجحة ومتقدمة لتبيان ما يمكن أن يحققه الاتصال التفاعلي من إنجازات على صعيد العلاقة الاجتماعية من ناحية، والعلاقة بين المجتمع والجهات الرسمية من ناحية ثانية، فالشارقة نموذج إقليمي وعالمي لهذه العلاقة، وما حققته من تطور في مؤسساتها ومن إبداع في الدمج بين التطور المادي المتمثل في الاقتصاد والبنية التحتية، والتطور الوجداني المتمثل في الثقافة والفنون والآداب، ليس سوى ثمرة للتفاعل بين مجتمع وصلته رسالة قيادته واضحة فآمن بها وبما ستحققه من خير على المدى البعيد، وقيادة تتقن فن مخاطبة أبنائها بصدق، تتواصل معهم ليس فقط لتنقل لهم سياساتها، بل لتتعرف إلى احتياجاتهم وطموحاتهم لتأتي هذه السياسات محملةً بما يتمنون لواقعهم ومستقبل أبنائهم.

رئيس مجلس الشارقة للإعلام

تويتر