نقطة حبر

أشعة المخلصين

ذهب الأديب تولستوي يشاهد معرضاً لفنان شاب، فسأله الشاب: ما رأيك؟ قال تولستوي: لا رأي لي، ولكن كيف تخلط الألوان؟ قال الفنان: سيدي إنني أخلطها بدمي!، قال تولستوي: ولكن دمك لا يكفي. قال الفنان: وروحي! قال تولستوي: ولكن روحك لا تكفي! قال الفنان: علمني أنت يا أستاذ! قال تولستوي: بل يجب أن تذوب في ألوانك.. حتى تكون أنت والألوان شيئاً واحداً، فلا تأكل ولا تشرب ولا تتنفس.. بل تتفانى في صنع الحياة على الورق! فالفن أن يموت الفنان لتعيش خطوطه وظلاله.

وعندما سئل الفنان العالمي ترنر عن لوحته الخالدة «رجل في العاصفة» قال: ذهبت إلى البحر، وطلبت من صياد أن يضعني في زورق ويربطني بالشراع ويتركني فوق الموج في قلب العاصفة، وهبت العاصفة، وراحت الأمواج تضرب الزورق عالياً هابطاً، ولم أعرف من أين تجيء العواصف، ولا الفرق بين البحر والسماء، ولا بيني وبين الزورق، وكدت أموت من الجوع والعطش والبرد.. فكانت هذه اللوحة. أظن أن هذين الموقفين ليسا مقصورين على الفن فقط، وإنما ينسحبان على كل ما نقوم به من أعمال، إنه الإخلاص والتفاني والتعايش الذي نحتاج إليه، بل ونرجوه ليضمن لنا البقاء والتطور والخلود. منذ سنوات دُعيت لأكون رئيساً للجنة اختيار المعلمين للعمل في مدرسة خاصة، وأوصانا مدير المدرسة باختيار العناصر ذات الكفاءة والخبرة والمهارة، وكان من بين المتقدمات معلمة لا تتمتع بخبرة واسعة، ولكنّ لديها رغبة وإخلاصاً عجيبين، ما دعاني لأن أتوسط إليها لدى مدير المدرسة لقبولها، ولما سألني المدير عن سر تمسكي بها فأجبته قائلاً: إنه الإخلاص الذي نحتاج إليه في المعلم، والذي يظهر أثره في سلوك أبنائنا، كما أنه ينعكس على المجتمع تقدماً وازدهاراً. ويبدو يومها أن مدير المدرسة أجابني لما أريد مجاملة وحرجاً، وما هي إلا شهور ثلاثة، حتى رأى من المعلمة جهداً لافتاً، وأثراً تعليمياً باقياً، وحباً طلابياً فاق كثيراً من المعلمات.

إن الذي يؤثر الراحة والدعة على الإخلاص والصبر يَلْقَى من العنت ما يلقاه رجل يدور حول نفسه محاولاً أن يصل إلى غايته، ويظل يتحرك في موضعه حتى ينقطع إعياءً من دون أن يبلغ هدفه. إن المخلص في عمله يستشعر سعادة تنبع من داخله وليس من خارجه، تغريه أن يرتقب في آفاق نفسه وحدها كواكب اليُمْنِ، وضياء الرضوان، وهيهات أن يدرك شعاعها أفول!

عميد كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة الحصن

تويتر