«مرايا» و«بارجيل» تحتفيان بتطور فن العرب في الخمسينات والسبعينات

«رد الشرق».. طبعة زرقاء وصناديق ســوداء

صورة

أعمال فنية ذات مستوى عالٍ من الاحترافية من حيث الفكرة والتنفيذ، قدمها مركز مرايا للفنون ضمن أمسية «مرايا» التي نظمت، أخيراً، بالتزامن من افتتاح مؤسسة بارجيل للفنون معرض «رد الشرق» الذي يتضمن مجموعة من مقتنيات الشيخ سلطان سعود القاسمي، والتي تعكس ثلاثة عقود من التحولات السياسية والثقافية في المنطقة العربية، ونظرة معمقة على النتاج الفني في الفترة من الخمسينات إلى السبعينات.

وعرض مركز مرايا في ساحة المدخل، عملاً فنياً بعنوان «الطبيعة بتشكيل» للفنان الإماراتي خالد الشعفار، الذي يضع لمساته في المكان لخلق تحول كامل في منظور الموقع، ولابتكار نوع من تأثيرات الضياع أو ما يمكن تسميته بـ«التوهان»، عبر عمل تركيبي يروي قصة تركز على إعادة معالجة العناصر والعودة إلى الماضي.

يستوحي الشعفار العمل التركيبي من التجليات البصرية التي تتبادر إلى الذهن عند تخيل مزرعة التمور، واصطفاف أعداد كبيرة من أشجار النخيل لخلق ممرات في ما بينها، ومساحة مظللة بالكامل من سعف النخيل بالكاد تتيح وصول ضوء الشمس، لإحداث أشكال هندسية ممتعة للناظرين، ومكان هادئ تسكنه أصوات الطيور والمياه ونسمات الرياح، إذ يمكن للمرء الاسترخاء والتأمل في جمال الطبيعة المحيطة وروعة أشجار النخيل، التي تعتبر من أكثر النباتات شعبية لدى مختلف الحضارات والأديان والثقافات.

عناصر طبيعية

رسامون عرب

معظم الأعمال التي تعرض في «رد الشرق» يعود نصفها لرسامين عرب في بداية مسيرتهم الإبداعية، وفي سنِّ ‬35 عاماً أو أصغر، وتكشف أهمِّ المؤثرات التي وجهت بوصلة ممارستهم الإبداعية، إذ يتفق النقاد على أن الفترة من خمسينات إلى سبعينات القرن، مثلت مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ الفن والثقافة بالمنطقة العربية، لأنها حدَّدت المسارات والتوجُّهات الإبداعية اللاحقة، لاسيَّما أنها شهدت تعاون كوكبة من أشهر الفنانين والمؤلفين والصحافيين والشعراء.

ويتضمَّن المعرض أعمال عدد من رواد الفن الحديث في المنطقة، من أمثال أحمد الشرقاوي ولؤي كيالي وأحمد مصطفى وفاتح المدرس، ليتيح لزواره فرصة التعرف إلى مسيرة وتطور الفن الحديث في المنطقة العربية منذ خمسينات القرن الـ20.

قال الشعفار لـ«الإمارات اليوم»، إن «العمل يختص في الطبيعة، وإعادة تفسير الطبيعة، وذلك بالتركيز على المواد المستخدمة التي تأتي من موارد طبيعية وتوضع معاً لتكوين شكل ثابت، إذ تتم إعادة تفسير ثلاث مواد طبيعية رئيسة، هي الخشب، وألياف شجر جوز الهند، وأوراق ونبات الحناء».

وأوضح أن «كل المواد الخشبية المستخدمة في العمل يتم تصنيعها مثل جذوع النخيل والمقاعد الخشبية من خشب البناء المعاد معالجته، والذي تمت إعادة استخدامه مرات عدة، وتم وضعه في الهواء الطلق لفترات طويلة، وقد استخدمت هذا النوع من المواد خصيصاً لتعكس طبيعة أشجار النخيل الحقيقية، والتي تُعتبر من النباتات المعمرة التي تعيش في مختلف الظروف الجوية».

يمثل هذا العمل بالنسبة للشعفار، رسالة بيئية لإعادة تدوير الخشب بطريقة ملائمة، إذ تمكن الفنان من تغطية الجدران بمادة مصنوعة من ألياف شجرة جوز الهند النقية لخلق شعور دافئ في مكان العرض، كما انتشرت الرائحة الطبيعية لألياف الأشجار في الأجواء لتحفز حواس الزوار وتثير مخيلتهم، ويعرض السقف زخارف وتصاميم مختلفة للحناء، جاءت على هيئة تصاميم قطع لليدين تلعب دور سعف النخيل.

وتعمّد الفنان أن يكون العمد ممتداً إلى الأعلى بشكل رأسي، ليستفز ويجذب نظر الزائر ليشاهد السقف ورؤية مصدر الظلال التي يفترض ان تكون ناتجة عن سعف النخيل الذي استبدله الفنان بالأيدي المغطاة بنقوش الحناء، وقد استغرق تنفيذ هذا العمل شهرين.

صناديق سوداء

رصدت صناديق الفنانة الاماراتية آلاء إدريس، فضول كثير من المارة وزوار أمسية مرايا، من خلال تقدمهم لتفحّص تلك الصناديق السوداء التي تثير الريبة والاستغراب، لاسيما بعد أن يقرأ المتفرج عبارة كتبت بداخل الصندوق الأسود المزود بمرايا من جميع الاتجاهات الداخلية، إضافة إلى كاميرا مراقبة، أن الجهاز مراقب.

ويعد العمل التركيبي «الصناديق السوداء السبعة لأنشطة الرصد والمراقبة»، مشروعاً تركيبياً أرشيفياً وتفاعلياً قامت بابتكاره الفنانة البصرية خصيصاً لمركز مرايا للفنون، إذ إن العمل يضم صناديق سوداء توضع في مختلف أرجاء القصباء، ورغم أن هذه الصناديق تبدو للوهلة الأولى صناديق عادية، إلا أنها أدوات تسجيل سمعية بصرية سرية، تقوم الفنانة بتسجيل وجمع البيانات العامة التي ترصدها تلك الكاميرات، لاسيما ان الذين يرصدون هم اشخاص من جنسيات مختلفة وأعمار متفاوتة وثقافات متنوعة.

وأكدت آلاء لـ«الإمارات اليوم»، أن «العمل سيوزع في مرحلة ثانية على أكثر الاماكن كثافة سكانية، إضافة إلى متابعة عمل المشروع في مواقع مختلفة، ورصد المنتج من هذا التسجيل وتقديمه كسلسلة متواصلة للعمل، ويتمثل الغرض من المشروع في استكشاف موضوعات الخصوصية والمراقبة، مع قيامي بجمع بيانات لمعرض فني مستقبلي».

وقدم الفنان السعودي المعاصر أيمن يسري ديدبان، لوحة سينمائية بعنوان «التغيير»، وذلك في الواجهة الخارجية لمركز مرايا للفنون، إذ يستعرض هذا العمل الجديد، المقتطف من لقطات أفلام سينمائية شرق أوسطية ذات شعبية كبيرة، السرد غير الخطي، ويحمل معاني جديدة ضمن سياقات فنية ومعمارية وسينمائية، كما يشكل المشروع الفني لديدبان جزءاً من مشروع شعبي أكبر يسعى من خلاله إلى توسيع تعريف نطاق وتطبيق الفن الشعبي، كما يشتمل على أعمال من أماكن عامة في دبي.

ويعمل المشروع على إعادة دراسة عبارتي «شعبي»، و«فن»، وقد بحث حركة الفن الشعبي ذلك من خلال تحويل الإعلانات التجارية (والتي تعتبر ظاهرة شعبية) إلى اللوحات الزيتية، فعندما يتم إزالة الأجزاء الساكنة من سياق الفيلم، يصبح مصدراً فريداً للمحتوى من دون أي فعالية سابقة أو بديلة.

الطبعة الزرقاء

الفنان العراقي الأصل الفنلندي الجنسية عادل عابدين، قدم عملاً تركيبياً بعنوان «الطبعة الزرقاء»، يستخدم الطبعة الزرقاء في الهندسة المعمارية والصوت بشكل غير رسمي لخلق رسومات تفاعلية واسعة، تحول قاعة العرض إلى مصنع وهمي. ويستكشف هذا العمل الجديد من نوعه والمؤثر، طبيعة الهوية العربية في فترة ما بعد الربيع العربي، والتي تأثرت بالعولمة والعالم الصناعي، ويثير قضايا مهمة خلال هذه الفترة التي شهدت تحولات كبيرة، وتهدف الطبعة الزرقاء إلى تقديم تقييم ثقافي بصري ساخر للطبيعة المعقدة ومتعددة الأوجه للهوية العربية، إذ يرى عابدين أن كل الهويات من صنع الإنسان، ويمكن مقارنتها مع آلية الإنتاج في المصنع.

ثلاثة أشهر من العمل المتواصل لتصميم هذا العمل والوصول به إلى الصورة النهائية، هي المدة التي استغرقها عابدين، ليتمكن من تنفيذ العمل، وأوضح لـ«الإمارات اليوم»، أن «العمل يطرح تساؤلات حول صناعة الهوية، إذ إن الهوية من وجهة نظري تصنع ولا تورث، ومن خلال هذا العمل تطرقت إلى الهوية العربية، التي طرحت سؤالاً عن ماهيتها وتركت المجال مفتوحاً للإجابة التي يقدمها الجمهور الذي تفاعل مع العمل».

وكفنان بصري فهو مهتم بكيفية إدارة وإنتاج هذه الهويات، من هنا انتج الفنان عملاً فنياً عبارة عن خط انتاجي كامل لتطور الهوية التي تتطور بتطور الزمن ويرافق خط الانتاج مؤثرات صوتية لآلات انتاج خاصة بالمصانع، ومع تطور الزمن يتغير الصوت، ويجسد عنوان المعرض الممارسة المعمارية والهندسية المستخدمة لإنتاج مخطط فعلي، يقوم عابدين بتعديله، وذلك بابتكار رسومات فنية لآلة كالتي نصادفها في أي مصنع، ويتخلل الرسومات عنصر صوتي متحرك وقوي تمت هندسته خصيصاً للإسهام في خلق بيئة مبالغ بها لمصنع حقيقي، وفي النهاية، يهدف معرض الطبعة الزرقاء إلى تقديم معالجة بصرية لسخافات الهويات المصنعة وتوزيعها لاحقاً للاستهلاك العالمي.

«رد الشرق»

إلى ذلك، عرضت مؤسسة بارجيل للفنون، مجموعة من الأعمال الفنية من مقتنيات الشيخ سلطان سعود القاسمي ضمن معرض بعنوان «رد الشرق»، وهو حوار حول تطور الفن في المنطقة العربية ما بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي.

ويرصد المعرض تطور الإنتاج الفني خلال العقود الثلاثة، والتي شهدت خلالها العديد من البلدان العربية فترات انتقالية وتحول من الإمبريالية البريطانية والفرنسية، ويقدم المعرض نظرة إلى الإطار الموضوعي الذي كان الفنانون يعملون ضمنه، ومع تطور البحث في الفن الحديث في العالم العربي، تتم مراجعة الفروق البسيطة الكامنة والنماذج الإرشادية للحداثة باستمرار، وترميمها وإعادة توجيهها.

وتكمن أهمية معرض «ردُّ الشرق»، في سعيه للتطرق لفترة مهمة وحيوية من تاريخ الفن في المنطقة العربية، وهو يمثل حواراً مفتوحاً يهدف إلى التخلص من النظرة الضيقة والنمطية للمجتمعات العربية التي طالما ارتبطت بمنظور الغرب للمشرق.

ويبرز «ردُّ الشرق» نخبة من الأعمال الحديثة لفنانين مؤثرين لهم جذور عربية راسخة في محاولة لرصد تلك المرحلة المفصلية من تاريخ الإبداع بالمنطقة، عبر منصة دولية مهمة لتبادل الأفكار تظهر تأثر المبدعين في المنطقة بالمدارس الفنية المهيمنة في تلك الفترة مثل السريالية والتكعيبية.

وقالت مديرة المُقتنيات ومشرفة المعارض في «مؤسسة بارجيل للفنون»، ماندي ميرزابان، إن «الفترة بين خمسينات إلى سبعينات القرن، تمثل مرحلة مهمة في المنطقة العربية لما شهدته من تحولات اجتماعية وسياسية متسارعة، والتحرر من الاستعمار وبروز المد القومي والحركات العروبية، ويرصد معرض «رد الشرق» تطور الفنون خلال فترة الثلاثين عاماً المشار إليها، كما يرصد النزعة الذاتية للفنانين، وكيف أن تلك المرحلة الجدلية مازالت مثار نقاش بشأن (الشرق)».

وتابعت ميرزابان إن «عنوان (رد الشرق) جاء من كوننا نرد على رسالة أصلية وصلتنا يحمل موضوعها عنوان (الشرق)، وبتعبير آخر نريد من هذا المعرض أن يسهم في إثراء الحوار المتواصل حول مفاهيمنا الماضية والراهنة بشأن الآخرين، والتصنيفات المختلقة التي تقيِد المبدعين عبر تفسيرات ضيقة للهوية والسياسة، كما يظهر المعرض إسهام الفنانين العرب في الحوار العالمي حول مفهوم الحداثة».

تويتر