‏‏‏رافق «الحلاج» إلى سجنه وتركه رماداً فـي دجلة

عباس أرناؤوط: قـلمي ابن زماننا الحزين‏

‏كمريد عاشق لا يملّ من تعقب مقامات ولي، ظل المبدع عباس أرناؤوط يتتبع خطى المتصوف الكبير الحسين بن منصور الحلاج، يقتبس من نوره في نص، ويستدعي قيمه في أقصوصة، حتى توجت حكاية العشرة الطويلة بـكتاب «الحلاج.. وارتعش القلب عشقاً..»، الذي أفرده الكاتب والمخرج الأردني لسرد حكاية بطله الأثير.

 صاحب مشروع

الراصد لأعمال الكاتب والمخرج الأردني عباس أرناؤوط، صورة وكلمة، يستشعر أنه منقب دائم عن حملة قيم، وصاحب مشروع يسعى وراء من يحملون في صدورهم «أحصنة لم تروض»، ففي غالبية حكاياته ثمة «ظالم ومظلوم وثائر»، وحتى على مستوى اللغة، رغم إشراقها، إلا أنها مشحونة بتوتر وشجن وثورة، قصيرة ذات وقع سريع، تجعل المتلقي يركض وراءها. وانطلاقته الإخراجية كانت مع مسلسلات «سليمان الحلبي»، و«عنترة»، بينما استوحت باكورة رواياته «الصوت يناديني» قصة بوذا، ذلك الذي ترك الملك، ومنح رداءه المطرز بالذهب لأول فقير قابله عقب خروجه من قصره، وحملت معظم قصص مجموعته «الموت إلى حد الحياة» رموزاً لمتمردين على واقعهم، وناظرين إلى أفق أرحب.

يشار إلى أن أرناؤوط تخصص في مرحلة مبكرة من حياته في الإخراج الدرامي والوثائقي، بعد دراسته في المملكة المتحدة، وعمل في عدد من التلفزيونات العربية، واستقرت به الحال في قناة الجزيرة، حيث أسس مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية. وقدم للشاشة الفضية عدداً من روائع الدراما العربية، ومن أبرزها «سليمان الحلبي»، و«عنترة»، و«ليلة سقوط غرناطة»، و«الكتابة على لحم يحترق»، و«مصرع المتنبي».

ومن كتاباته إلى جانب «الحلاج»، رواية «الصوت يناديني»، ومجموعة «الموت إلى حد الحياة» القصصية.‏

http://media.emaratalyoum.com/inline-images/240248.jpg

 أرناؤوط: رموزي ذات كبرياء.. لكنها جريحة. من المصدر

لم يكتف أرناؤوط بمرافقة الحلاج في سجنه كما صنع سواه، بل عاد إلى البدايات حين كان الصبي يتأمل أباه وهو يميز القطن «الخبيث من الطيب»، وصحبه في رحلته مع الحرف، وهو يتلقى دروسه الأولى، وارتحل معه إلى محطات عدة، إلى مكة والبصرة، وإلى أهواز الفقراء، ودروب من يكيدون لمن فاض الوجد في قلبه، إلى أن وصل إلى محنته الأخيرة، وودع أرناؤوط الحلاج رماداً منثوراً في نهر دجلة بعد صلبه. ويسطّر الكاتب دراما حياة الحلاج (244 ـ 309 هجرية) ليس كمجرد سارد قصصي، أو شاعر متحمس لبطل كلاسيكي، بل كباحث يسائل التاريخ، ولا يستسلم لمرويات مزيفة كتبها حملة عرش سلاطين، ظلمت الحلاج وكثيرين على شاكلته.

ويرى المبدع الأردني أن مرافقته الطويلة للحلاج منحته عطايا كثيرة، إذ إن الأخير نموذج للصدق والإخلاص والفروسية يستحق العشق، معتبراً أن للقيم بريقها في كل الأزمنة، ولن يخلو عصر من المنافحين عنها، حتى وإن خبا ذلك البريق احياناً، مضيفاً، بتواضع الكبار، في حوار مع «الإمارات اليوم»: «لست كاتباً، أنا أهوى الكتابة»، لافتاً إلى ان معظم قصصه تختتم بنهايات ذات شجن، لأن قلمه ابن زماننا الحزين بفعل نكبات متوالية.. وتالياً تفاصيل الحوار:

حكاية عشق

- عشقك للحسين بن منصور الحلاج قديم، أعلن عن نفسه من قبل كتابكم الأخير، وحضر في أكثر من نص في مجموعة «الموت إلى حد الحياة».. ما الحكاية مع الحلاج تحديداً؟

-- رجل عشق، تخلّل العشق دمه، عرف أن الحب قاتله فحثّ الخطى إلى لقاء الحبيب، سُئل عن يوم عيده فقال عيدي يوم أُرفع على الصليب، احترق في لهيب العشق ولم يتأوّه، بل قال «ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم». الذي يذهلني في الحلاّج أنه ارتقى في عالم الروح إلى القمة، لكنه لم يجلس عليها يتأمّل، عرف أن الإنسان جوهر الحياة ومقصدها فنزل عن قمته ليدافع عن فقراء الزمان ومظلوميه، رافعاً شعار «أحب الناس إلى الله خيرهم لعباده»، كان في الليل فراشة تدور حول النور، وفي النهار فارس الإصلاح والدعوة إلى العدل.. كيف لا يعشق هذا الرجل؟ الحلاّج عاش كالرُمح، مستقيماً يمشي، فاصطدم بمن وقف في طريقه، لم ينحنِ ولم يلتوِ أو ينثنِ، ودفع ثمن استقامته على ما يؤمن به من الحق.

- هل الاستغراق الطويل مع الحلاج، وتتبع وقع خطواته منذ طفولته في «وارتعش القلب عشقاً» فيما يقرب الـ400 صفحة، محاولة لرد الاعتبار إلى تلك الشخصية، ودفع تهم ألصقت بها أم لمرامٍ أخرى، أم خلاصات عشرة طويلة وبحث وتتبع لتلك الشخصية؟

-- أجمل أيام عُمري قضيتها أكتب عن الحلاج، أعطاني أكثر مما أعطيته، عشت معه أرتشف رحيق المعرفة والحق والصدق والإخلاص، ما فكرت يوماً أن أزيل عنه غبار السنين، فغبار السنين تتطاير أمام دعائِه وهو يواجه الموت، يقول: «يا معين الفناء علي.. أعني على الفنا»، صُلب وقتل وأُحرقت كتبه حتى مُنع الناس من ذكر اسمه، ومن نقل عنه كتب «قال أحد الفضلاء». ومع هذا عاش الحلاّج ولم تنطفئ ناره، كتب عنه أعظم الشعراء والأدباء، ولعله من الصعب حصر ما كتب عنه قديماً وحديثاً، لم يكن الحلاّج في حاجة إليّ، أنا كنت في حاجةٍ إليه، لكنني أردت بشكل ما أن أكشف زيف من قتله، اتـّهموه في دينه حرصاً على دنياهم.

- ظهر أثر العشرة الطويلة مع الحلاج في أكثر من ملمح، أبرزها اللغة التي تماهت مع لغة المتصوفة، وأحوال المريدين، حتى رق الفارق بين استشهاداتك من أشعار الحلاج، وبين لغتكم الأنيقة التي تقدس اللفظة وتحترمها، كيف أقمت ذلك المزج الجميل؟

-- ما تشابه من لغتنا امتزج فيها الحبيب بالحبيب، كأنني كنت من أهوى ومن أهوى أنا، عندما تذوب جدران الأجسـاد وتذوب الأرواح بالأرواح يكون الحب والتماثل.

كتابة عن القيمة

- هل الحاضر مقفر ومجدب إلى درجة أن نصوصك ــ وحتى أغلبية معالجاتك الدرامية ــ في سفر دائم إلى الماضي، تحن إلى التاريخ، وتنقب فيه عن أبطال تفتقدهم وتعوِض بهم شح زماننا بالساعين وراء الأحلام المستحيلة.. فهل واقعنا خالٍ من الفرسان، ومحاولي الطيران لاقتناص نجمات العدل تحديداً؟

-- تُطـّل علينا السماء كل ليلة مضيئة بنجومها، ولا تخلو ليلة من نجوم حتى لو غطـّاها الضباب، ولكن، أنا أقرب فيما أكتب إلى «القيمة»، والقـِيم لا زمان لها، هي مشعّة في كل زمن، سواء عاشت في الماضي أو تعيش اليوم أو غداً. لكن اسـمح لي بسؤال هنا، وأنت تقرأ هذا الكتاب هل أحسست أنه يعيش في متحف التاريخ، أم أن الزمان هو الزمان، والناس هم الناس، والدول هي الدول، والقتيل دائماً هو صريع الحق. أإذا تجمـّدت الصور وتكرّرت فهذا خلل في حركة التاريخ، وليس فيما نكتب.

- أبطال قصصك متهمون بمحاولات اختراق الأفق، والتمرد على السائد، وعشق الحرية والعدل والأحلام البعيدة.. وحب الموت.. ما رأيك؟

-- كل هذا صحيح ولا دفاع لديّ.

- قلمك متيم بصنع النهايات الحزينة، بعيداً عمن اغتالتهم الأماني الكبرى، ففي «الموت.. إلى حد الحياة» أغلبية رموزك ــ صقور ونمور وفهود ونسور ــ مصيرها واحد..أ لماذا؟

-- قلمي ابن زمانه، وزماننا حزين، من نكبة إلى نكبة.. ودم يغسله دم.. رموزي ذات كبرياء لكنها جريحة، وأعمق الجروح ما كان في قلب كريم. أنت تعرف العلاقة بين السياسة والأدب، ربما وأرجو أن يحدث على الأرض ما يغيّر نهايات ما أكتب.

- دائماً تحمل إبداعاتك شكلاً من أشكال الكتابة عكس السائد، ومحاولة شق قالب خاص يجتبي من كل الألوان الأدبية طيفاً، فلا «الصوت يناديني» نوع روائي ممسرح خالص، ولا «الموت إلى حد الحياة» قصصية صرفة، ونصوص الحلاج أكملت الحكاية، إذ تركت نوعها للقارئ يصنفها كيفما شاء، لماذا تلك الكتابة عبرالأنواع الأدبية جميعها؟

-- عليّ أن أعترف أنني لستُ كاتباً، أنا أهوى الكتابة، لا تزعجني القواعد والمدارس والأساليب، أنا أكره بحور الشعر وإشارات المرور، أكتب ما أريد.. كيف أريد، وهذه حرية أتمنى ألاّ أخسرها أبداً. أليست كلمة الإبداع تعني الجديد؟

- هل من الترف أن يحلم شخص بتناول الحلاج في عمل درامي طويل، خصوصاً أن «مأساة الحلاج» لصلاح عبدالصبور مسرح شعري؟

-- لا ليس من الترف أن نحلم، الحُلم هو أساس الحضارة وبذرة المستقبل، لكن الحلاّج رجل اصطدم وعصره، وهذا الرجل سيصطدم مع أي عصر يولد فيه.

- مشروعاتك المقبلة، وإلى أي مدى تاريخي سترحل هذه المرة، هل إلى حلاج أم إلى بوذا جديد؟

-- أنا صاحب فكرة أعبّر عنها مرة بالصورة ومرة بالكلمة، أنا لا أرحل، أنا أعيش معك الآن، وكنت دائماً معك.‏

تويتر