عباس أرناؤوط يقلّب في الذكريات «بلا قـــيود»

«الطواحـين وأنــا» وحرية لا تروّض

صورة

حاملاً قلماً يستحيل الى فأس، يقلّب المبدع عباس أرناؤوط في أرض الذكريات، ويتمرد على كثير من قواعد لعبة الكتابة، راوياً هذه المرة عن الذات والبدايات ومحطات العمر، وعن آخرين أضاؤوا لصاحب السيرة المسيرة: فرسان ولدوا في غير أزمانهم، مسكونون بحرية لا تروض، تتعدد أمكنتهم وعصورهم، يستدعيهم المخرج الأردني الفلسطيني في كتابه الجديد «الطواحين وأنا»، لتجتمع في فضاء واحد وجوه سبارتاكوس، وأبي ذر، وسليمان الحلبي، وتشي جيفارا، وجمال عبدالناصر، أو بالأحرى تنعكس في مرآة سارد مصاب بفيروس «التمرد» منذ أن كان على مقاعد الدراسة الأولى.

«ضد النظام»

«أريد أن أكتب.. لماذا؟ لا أعرف.. شيء في داخلي يريد أن يخرج فيريح ويستريح.. ولا غير.. أكاد أقول ان هوميروس عندما كان يغني (إلياذته) لم يكن يتصور يوماً حتى يفكر أن (إلياذته) ستطبع أو تقرأ بعد آلاف من السنين.. هو أحس برغبة في الغناء فغنى.. أريد أن أكتب ولا أعرف لماذا.. وأعرف أن الذي يكتب عليه أن يعرف قواعد اللغة وقواعد الصناعة، أن يعرف أن للرواية بداية ووسطا ونهاية.. جملا وتسلسلا وفصولا.. للكتابة نظام وأنا أكتب بلا نظام.. أكتب ضد النظام ولا أكرهه مثلما أكره الخليل بن أحمد الذي وضع قواعد العروض وقنن موازين الشعر.. وهل للشعر موازين وإشارات ضوئية نتوقف على أحمرها ونمشي على أخضرها.. الشعر جواد جامح بلا سرج ولا ركاب.. لم يروّض، ولا يحق لأحد أن يروضه فيكسر الحرية في داخلنا، ويمنع جناح القلب أن يطير.. ألا يحق لكل عصفور أن يغرد على غصن أي شجرة في هذه الدنيا، فنطرب له وهو لا يعرف الخليل بن أحمد.. دمعة أم ثكلى تعادل حزن العالم وفي ضحكة طفل وليد فرح الكون والنجوم.. الورقة صفحة بيضاء والقلم بين أصابعنا، وعليه أن يتحرك بحرية ويكتب ما يشاء بلا قيود ولا فواصل ولا نقاط ولا علامات تعجب أو استفهام.. ألا تقفز بنا الذاكرة الى يوم كنا اطفالاً وترتد الى يومنا هذا قبل ان يرتد الينا طرفنا.. أليس الفن هو الحرية.. وبقدر ما نكون أحراراً نكون كباراً.. الحرف لا يعيش في المدن ولا يسلك الطرق المعبدة بل يطوف الصحراء الشاسعة بلا حدود ولا طرائق ولا شعب ولا اشارات مرور..».

يرفع صاحب «الطواحين وأنا» الصادر أخيراً عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) في بيروت، منذ الصفحات الأولى راية «الرفض»، يبرزها بلا مواربة، منبهاً قارئه الى أن قلمه لا يرتضي القيود، ولا يعترف بتراتبية ترى للرواية بداية ووسطاً ونهاية، وحبكة وعقدة وحلاً، أو أن للقصيدة ‬16 وزناً، ويخاطب مطالع كتابه قائلاً «هذا كلام بلا قيود.. فإن كنت تعترف بها (بالقيود) فتوقف عن القراءة.. ولن تخسر الكثير».

عن الحرية، وبالحرية، تكتمل الحكاية في «الطواحين وأنا»، يضرب السارد قلمه، أو فأسه لا فارق، لتتفجّر ذكريات من مراحل مختلفة، فتتجاور صورة طفل يمسك بجلباب أمه لحظة الرحيل عن فلسطين، مع مشهد شاب رهين الانتظار في مطار عربي يواجه دوماً سؤالاً مراً: أنت أردني ـ أردني.. أم..؟ وبالحرية التعبيرية أيضاً تمتزج في بنية الكتاب الشاعرية بالسردية، والقصيدة بالحكاية، مكونة نمطاً خاصاً لشكل «الطواحين وأنا» الذي يقع في ‬122 صفحة.

محطات

بلا ثرثرة، ينتقي عباس أرناؤوط مشاهد من رحلة العمر، ينطلق من محطات بعينها، يرسم في النهاية صورة كلية لذلك المتحدي لـ«الطواحين»، فثمة وقفات مع البدايات، وإطلالة على أرض الميلاد وقباب القدس، وطفل حُفّ ميلاده بحزن على فقد أخ، وتهجير الى «صحراء التيه»، وتجربة التمرد الأولى على مقاعد الدراسة. وثمة استراحة ببريق، تزينها بوسترات تفضي الى صالة معتمة، حيث شاشة سحرية كبيرة تعرض أفلاماً من الشرق والغرب، تفتن صبيا شغوفا بالصور والأبطال.

في السينما تعرّف عباس أرناؤوط الصبي الى «عالم تتحقق فيه الأحلام.. تنتصر الثورة على الطغيان والعدل على الظلم والحب على الكراهية.. ربما لهذا عشقها». كما تعلق بفيلم عن فلاح مكسيكي (زاباتا) يواجه حاكماً، وينتصر لنفسه وآخرين، ومن «زاناتا» الى رمز آخر، «سبارتكوس» العبد الذي صار رمزاً للحرية، ورحل سعيدا رغم الصليب الذي علق عليه: «أعجبت بالفيلم كثيرا.. شاهدته كل يوم مرة على مدى أسبوع.. وأسأل الآن هل الذي سحرني هذه التحفة الفنية الرائعة، أم سبارتكوس الإنسان ولا أعرف الجواب.. لكنني أعرف أن الفن عندما يمتزج بقضايا الإنسان يخطفنا لحظات من أرض الواقع لنعيش الحلم واقعا.. يضحكنا ويبكينا».

يواصل سارد «الطواحين وأنا» البوح، يرسم، هذه المرة، صورة لشاب على عتبات المستقبل، تجتذبه الكلمة والصورة، تعلق بالأشعار وكذلك بشاشة سحرية، جرب بعد الثانوية دراسة الآداب، والتحق بجامعتين لعامين، لكن «نداهة» أخرى كانت تناديه، وتثير في نفسه حنينا من نوع مختلف، وبالفعل استجاب الشاب، وعاد الى وطنه، معلناً لعائلته أنه لن يدرس الا السينما، ومن جديد يسافر، هذه المرة الى المملكة المتحدة ليتخصص في الفن السابع، ويخرج أفلاماً ومشروعات أولى، ويحصل على شهادة عليا في السينما.. بعدها يعود الى الأردن، حاملاً شهادة وأحلاماً، لكنه لا يجد فرصة عمل في التلفزيون، ويظل عاما الا يوما يحاول، وأخيراً يدخل التلفزيون بـ«واسطة» كما فصل في الكتاب. خرج أرناؤوط من التلفزيون بسبب «خمسة دنانير» ضن بها المسؤولون على راتبه، بينما لم يبخلوا على فنانة بـ‬50 ألفاً.

رسالة

يجيب كتاب «أنا والطواحين» عن أسئلة ربما أرقت محبي مخرج روائع «سليمان الحلبي»، و«عنترة»، و«الكتابة على لحم يحترق»، إذ يفصل عباس أرناؤوط سبب ابتعاده عن الساحة، وغيابه الطويل عن ميدان امتلأ بتجار الفن، وسماسرة الدعايات، ويأتي ذلك في سياق سرده لتجربته الشديدة الخصوصية مع مسلسل «سليمان الحلبي»، وذهابه الى القاهرة للبحث عن عناصر العمل، وكيفية لقائه بأحد رفاق الدرب، وواحد من أهم كتاب الدراما هو محفوظ عبدالرحمن.

يقول عباس أرناؤوط: «أؤمن بأن الفن رسالة، وأن أفعالنا هي كلماتنا تمشي على الأرض، ولابد أن يطابق العمل الفكر. لو سألني سائل في أي زمن عشت لقلت عشت زمن عبدالناصر.. آمنت وتعلمت أن الأمة واحدة لا تفرق بينها حدود.. وأن لغتنا أحد عوامل وحدتنا.. كم حاول الاستعمار أن ينمي اللهجات المحلية كي يجعل اللغة لغات والأمة شعوباً.. كنا اذا اجتمعنا في الغرب طلبة من أقطار مختلفة تجمعنا اللغة بها نتعارف ونتفاهم.. لهذا فأول واجباتي أن أحافظ على اللغة العربية وقررت أن تكون أعمالي باللغة العربية الفصحى تجمع الأمة ولا تفرقها.. في الدراما... اخترت بطلاً أحببته شاباً وقرأت عنه بشغف.. شاب جسد وحدة الأمة في زمنه.. سوري يافع اسمه سليمان، ترك مدينته حلب ورجع الى القاهرة التي درس فيها بعد احتلال الفرنسيين لها.. رتب مع مجموعة من الشباب الفلسطينيين لاغتيال الجنرال كليبر حاكم مصر العسكري، ونجح في ذلك وثأر لمصر وكبريائها».

يشار إلى أن عباس أرناؤوط تخصص في مرحلة مبكرة من حياته في الإخراج الدرامي والوثائقي، بعد دراسته في المملكة المتحدة، وعمل في عدد من التلفزيونات العربية، واستقرت به الحال في قناة الجزيرة، إذ أسس مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية. وقدم أرناؤوط عدداً من روائع الدراما العربية، من أبرزها «سليمان الحلبي»، و«عنترة»، و«ليلة سقوط غرناطة»، و«الكتابة على لحم يحترق»، و«مصرع المتنبي». ومن إبداعاته الأدبية «الحلاج.. وارتعش القلب عشقاً»، و«الصوت يناديني»، و«الموت إلى حد الحياة».

تويتر