ثروت الخرباوي يبوح بـ «سرّ المعبد» وأوراق «كهنة الجماعة»

«مطرود من رحـــمة الإخوان» يكشف المستور

صورة

يعود «المطرود من رحمة الإخوان»، ثروت الخرباوي، ليطرح شهادة جديدة عن الجماعة، وفصولاً من ذكرياته معهم، ضارباً هذه المرة في العمق، كاشفاً أوراقاً خفية، ووثائق عن الجماعة، ومحللاً آراء بعض منظريها ومرشديها، أو من يصفهم الخرباوي بـ«الكهنة الكبار»، في كتاب بعنوان «سر المعبد.. الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين»، صدر حديثاً عن دار نهضة مصر.

يمزج صاحب «قلب الإخوان» في جديده بين الذاتي والموضوعي، يعرض طرفاً من سيرته، والتي ارتبط بعض خيوطها، في مرحلة عمرية ما، بشبكة إخوانية تنظيمية معقدّة، يحاول أن يسترجع تلك الحقبة من حياته، والتي عاش فيها في «بيت الطاعة» الإخواني، مقيداً في «سلسلة عبيد طويلة»، ويتطرق الكاتب الى مشاعره بعد الخلاص والتحرر من «جماعة بلا قلب» كما يصفها، ولعل ذلك الجزء من الكتاب هو الأبرز، إذ يبوح الخرباوي بمشاعره، والحال التي كان عليها، والمآل الذي صار إليه بعد عام ‬2002؛ تاريخ انفصاله عن الجماعة، وغيرها من الأحاسيس التي لا يستطيع أحد مساءلته عنها.

في المقابل، توجد آراء كثيرة في «سر المعبد» تثير جدلاً، وتفتح نافذة واسعة للنقاش، لعل من بينها، تصوير «الجماعة» وكأنها كائن أسطوري، امتدت أذرعه اللامرئية الى كل مفصل وجهاز حيوي في مصر، وكذلك العلاقة ما بين «الإخوان» و«الماسونية»، أو ما أطلق عليه الخرباوي مصطلح «الماسيو إخواكية»، والذي جعله عنواناً للفصل الثاني عشر من الكتاب الذي يضم ‬17 فصلاً، في ‬359 صفحة.

وربما يرى قارئ ما أن العديد من الملفات التي يعيد فتحها ثروت الخرباوي في كتابه، تطرّق اليها من قبل باحثون متخصصون في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين، لكن بنبرة أخف، ولأن كتابات معظمهم لم تأتِ من الداخل، كما حال ثروت الخرباوي، لم تجد الصدى الذي صادفه كتاب «سر المعبد»، علاوة على الظرف التاريخي الذي تعيشه مصر والمنطقة حالياً.

الحرية.. البداية

في «القلب»

سرد ثروت الخرباوي بالتفصيل تجربته مع جماعة الإخوان المسلمين حتى انفصاله عنهم في كتاب أول بعنوان «قلب الإخوان»، وتعرّض فيه لانحراف الجماعة عن النهج الذي رسمه مؤسسها حسن البنا، وسيطرة ما يسمى بالتنظيم الخاص على الجماعة، والذي ينزع أعضاؤه الى فكر سيد قطب الذي يختلف بشكل ما عن رؤى حسن البنا.

وقال الراحل أنيس منصور عن الكتاب الذي ظهر عام ‬2008 إنه «كتاب يدخلك من أول صفحة وبلا مقدمات في قلب الجماعة ورموزها وأمرائها، فتنسى أنك لا تعرف عنها أو عنهم شيئاً. يلقي بك المؤلف في قلب الجماعة ومعتركها بسهولة».

يستهل ثروت الخرباوي «سر المعبد» بفصل ذاتي بعنوان «صوت الحرية»، يسرد فيه رحلة بحثه عن أسطورته الخاصة، وعن ماء تيقن في ما بعد أنه سراب حسبه هو «الظمآن» ماءً، إذ التحق الخرباوي بجماعة الإخوان المسلمين، وانضوى تحت مظلتها لعقود، واختتم علاقته بها بعد لقاء «عاصف» جمعه بأكبر رأس في الجماعة حينها، وهو المرشد السابق مأمون الهضيبي، وكان ذلك على أثر مجاذبات طويلة داخل جماعة «كتم النفس» التي لا تسمح بالنقاش، ولا تستوعب أي نغمة مخالفة لسيمفونيتها الموحدة، على حد تعبير الخرباوي الذي رأى أنه كان تلك النغمة التي لم تستسغها أذن الجماعة.

ويسهب المحامي والكاتب المصري في وصف حالة التحرّر، ومشاعره عقب الفكاك من «الأسر»، يبتعد عن تلك المساحة، ثم يعاود الحديث عنه، وكأنه يطلق أحاسيس كانت حبيسة لزمن، تواقة الى الطيران في فضاءات حرمت منها طويلاً: «مرت سنوات وأنا في قلب الإخوان، رأيت فيها أفكاراً ترتفع، وأفكاراً تتهاوى، شخصيات حملت الجماعة، وشخصيات حملتها الجماعة، كان في ظني أن التنظيم ما هو إلا وسيلة لتوجيه طاقات الفرد الإبداعية وتنميتها، فإذا به وسيلة لتنكيل الفرد في سلسلة بشرية طويلة، أشبه ما تكون بسلسلة العبيد التي كانت تُحمل الى أميركا من بداية القرن السادس عشر، الفارق أن كونتا كنتي، الشاب الإفريقي المسكين الذي كان يتم أسره من غرب افريقيا قهراً وغصباً ليدخل في سلسلة المستعبدين، كان لا ينفك عن التمرد على العبودية الى أن يستنيم لها مجبراً، ولكنه يظل أبد الآبدين مستعبد الجسد طليق الروح والنفس، ثم تخرج من صلبه بعد ذلك أجيال لا تعرف الا العبودية فتظنها الحياة، وحينها تكون هذه الأجيال هي أعدى أعداء الحرية، ويكون السجان هو سيدها وقرة عينها، أما الذي يفتح لها الأبواب المغلقة لتنطلق الى حريتها فهو العدو الذي يجب أن تقاومه. عبودية التنظيمات أشد وأنكى من عبودية كونتا كنتي، إذ إنها عبودية الأجساد والأرواح والأنفس.. ما أغبانا حين يقودنا الراعي بعصا الدين والأخلاق والشريعة، ونحن نهش له، يا الله! كم من العبوديات ترتكب باسم الله..».

«الكتالوج» الإخواني

على خلاف كثير من الآراء التي تعتبر أنه يوجد نمطان داخل «الجماعة»: «حمائم وصقور»، أناس يؤثرون الجانب الدعوي، وآخرون ينغمسون في السياسة وألاعيبها، يرى ثروت الخرباوي أن «الجماعة» كتلة واحدة، أشبه بقطار مختطف انحرف عن المسار، وأنه لا مكان فيه سوى للراغبين في السير على طريق مرسومة مسبقاً، ومن يعترض فليس له محل، كما كانت الحال مع الخرباوي نفسه، وبعض من أورد ذكرهم في كتابه الجديد. إذ يتعجب الكاتب من محاولة صبّ كل اعضاء الجماعة في قالب واحد، وفق «كتالوج» بعينه، دونما اعتراف بالفوارق الفردية، والسمات الخاصة التي يتمتع بها كل إنسان، فالسمع والطاعة والثقة بقائد الخلية أو الكتيبة أو التنظيم، صفات لا مجال لمناقشتها، وهي التي تحدد درجة الإخلاص لديهم. يقول الخرباوي: «حين اختلفت مع تنظيم الإخوان، كنت مازلت في قلبه، أخذت أقلّب الفكر، هل أنا الذي أختلف معهم أم أنهم هم الذين اختلفوا معي؟ ثم هل يعقل أن يختلف شخص مع نصف مليون! كيف هذا؟ هل هم آلات مضبوطة من المصنع على حركة واحدة ولفتة واحدة وإيماءة واحدة؟ أيعقل أن يكون نصف مليون من البشر على رأي واحد وفكر واحد وعقل واحد؟».

وفي موضع آخر يضيف «لم أقف معهم على قضبان القطار التي رسموها في مدينة الإخوان وطلبوا من الكل أن يسير عليها، فأنا أحب الأرض الرحبة.. لكن الإخوان لا يحبون ذلك. الإخوان يرغبون في (رصّ) الإخوة في أرفف الجماعة، بحيث لا يتحركون ولا يفكرون الا بالأمر، وبنفس الطريقة التي حددوها في (الكتالوج)، الإخوان يكرهون الأحرار ويحبون العبيد، لذلك لم يرتفع شأن أحد في الإخوان بعد وفاة الأستاذ عمر التلمساني إلا اذا كان عبداً».

صندوق خفي

في الفصل الثاني من الكتاب والذي عنوانه «ايكاروس» يبدأ الخرباوي في إثارة القضايا، عبر التطرق الى سر أول من الأسرار المحفوظة لدى «الكهنة الكبار في صندوق خفي لا يستطيع أحد أن يطلع على ما فيه، إذ إن العتمة التي يعيشها أفراد الجماعة تحجب عنهم نور الحقيقة». يتمثل ذلك السر في وجود علاقة، يراها الخرباوي قوية وقديمة، بين الإخوان والماسونية، لافتاً الى أن الداعية الراحل محمد الغزالي في أحد طبعات كتبه القديمة «ملامح الحق» تحدث عن أن المرشد الثاني للجماعة حسن الهضيبي كان ماسونياً.

ويتتبع الخرباوي ذلك، ليجد أن سيد قطب، كتب مقالات في جريدة «التاج المصري» التابعة للمحفل الماسوني المصري، وكانت الجريدة لا تسمح لأحد بالكتابة فيها الا أن يكون عضواً من أعضاء «المحفل». يمتد الخيط ليصل بالخرباوي الى ركن ثالث في «الإخوان»، ولكن هذه المرة في سورية، ويطرح اسم مراقب الإخوان هناك مصطفى السباعي. ويتطرق الخرباوي، في أجواء شبيهة بعالم رواية «شيفرة دافنشي»، الى تحليل رموز الجماعة، ويطيل الوقوف أمام شعارها، حيث السيفان والمصحف وكلمة «وأعدوا»، محاولاً إقامة رابط بين شعار الجماعة، وشعارات الماسونية، ولعل ذلك بدا واضحاً حتى في غلاف الكتاب.

لكن اللافت أن الخرباوي يختتم حديثه في تلك النقطة تحديداً، بأن العلاقة الإخوانية ــ الماسونية هي مجرد «فرضية» ينبغي التحقق منها وتتبعها، وفي موضع آخر من الكتاب يعود الى النقطة نفسها، مشيراً الى اختراق الماسونية لجماعة الإخوان، من دون أن تدري الأخيرة.

«عصافير» داخل الجماعة

على خلاف ما كان معتقداً في مصر منذ زمن، عن أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ظلت عصية عن الاختراق الأمني، ونقية من مرشدي جهاز أمن الدولة السابق، يلفت ثروت الخرباوي في «سر المعبد» الى أن الجماعة وجد بين أعضائها «عصافير» و«جواسيس سريون»، والمفارقة أن القيادات اكتشفت عدداً منهم، واستثمرت أولئك الجواسيس، وحوّلتهم الى ما يطلق عليه مخابراتياً «العميل المزدوج».

يقلب الخرباوي أيضاً الصورة النمطية، عن الصراع ما بين السلطة في مصر والإخوان، مسلطاً الضوء على صفقات كانت تتم ما بين الطرفين من وراء ستار، وتعليمات كانت تصدرها القيادات لبعض الاتباع لامتداح سياسات بعينها للرئيس السابق محمد حسني مبارك. ولا يفوت الخرباوي أن يذكر اشتراك أعضاء من الجماعة في عملية تزوير انتخابات كان هو طرفاً فيها، ولم يتصور حينها أن هناك من يرتضي بذلك داخل «الإخوان»، الجماعة التي حسبها المؤلف كنزه الخاص.

من الأسرار التي يرى الخرباوي أنه كاشفها أيضاً، التنسيق والتقارب الإخواني ــ الأميركي، إذ يبرز حبل الصلة الممدود بين الطرفين منذ سنوات، فالجماعة تقرّبت الى عالم الاجتماع والناشط السياسي الدكتور سعدالدين ابراهيم، ليكون الأخير «واسطة خير» لدى الساسة الأميركيين.

أما عرابا التقارب الإخواني ــ الأميركي، فهما القياديان في «الجماعة» خيرت الشاطر، والدكتور عصام العريان، و«أحياناً يكون هناك أشخاص آخرون بعينهم يقومون بمهام محددة». يوثق ثروت الخرباوي ذلك السر بوثيقة وصفها بالسرية، وكانت مرسلة من «أحد الإخوان المسؤولين في أميركا الى خيرت الشاطر بها بعض المعلومات الخطيرة، هم يطلقون على خيرت Big أي الرئيس والكبير أو المهم، لذلك الخطاب موجه الى B».

أما عن مضمون الخطاب، فهو كما نقل ثروت الخرباوي: «كان للجهود التي بذلها دكتور برونلي أثر طيب في تقريب وجهات النظر الى حد كبير، الا أنه مازالت بعض الاختلافات في وجهات النظر، وقد ظهر لي أن مستر ايرلي متعنت، الا أنني أوضحت للأصدقاء الآتي:

ــ لن نغير خريطة المنطقة السياسية.

ــ نتعهد بالحفاظ على كل المعاهدات والاتفاقات (أبدى الأصدقاء سعادتهم بتصريحات المرشد عن إسرائيل).

ـ ضرورة الحفاظ على الكيان الحاكم وعدم خلخلته دستورياً أو شعبياً، وعدم المساعدة في أي تجمع يسعى الى احداث خلخلة للنظام. وينتظر الأصدقاء سفر د.(عصام) العريان الى بيروت في النصف الأول من ديسمبر لإكمال الحوار، وإن لم يتم سيحضر اليكم صحافي أميركي وسيقدم نفسه تحت اسم جون تروتر.. مطلوب أن يجلس مع (خيرت) الشاطر و(محمود) عزت».

«هدية مفخّخة»

ينبش ثروت الخرباوي في كتابه «سر المعبد» في ملفات قديمة شائكة لدى جماعة الإخوان المسلمين، والتي يؤثر البعض داخل الجماعة الصمت عنها، وعدم التعليق عليها، موهمين الآخر بأنها كانت فصلاً من تاريخ الجماعة، وغابت بلا رجعة، كما الحال مع «النظام الخاص»، والذي يعد الجناح العسكري للجماعة، فحسن البنا أسس ذلك النظام عام ‬1939، وجعله سراً من أسرار الجماعة الكبرى، لا يطلع عليه الا خاصة الخاصة داخل التنظيم، وبالطبع من وقع عليهم الاختيار ليكونوا جنوداً في «النظام الخاص» المسؤول عن اغتيالات وتفجيرات عدة.

يهاجم الخرباوي «النظام» كاتباً: «تباً لهذا النظام الخاص وأيامه، ليتك لم تنشئه يا بنّا (حسن البنا)، أسسته بعيداً عن أعين الجماعة المدنية، وجعلته سرياً ووضعت على قيادته رجالاً لا يفقهون، فوضعوا السيف في موضع الندى، قتلوا وفجروا واغتالوا، كله باسم الإسلام، حتى انهم قتلوا أحد أفراد الجماعة دون أن يكون لديهم ذرة من دين أو خلق، قتلوا سيد فايز وابنته، إذا فُرض وكان سيد فايز أجرم في حقهم جدلاً، وإذا فُرض وكان جرمه يوجب قتله، فما ذنب تلك الطفلة الصغيرة التي غلفوا لها الموت، ووضعوه في علبة حلوى، وأعطوها الهدية المفخخة، وما ان فتح فايز الهدية حتى انفجرت فيه وفي ابنته، فماتا وهما يشتكيان تلك القلوب الفاجرة».

تويتر