حالمون ومنكسرون يرسم صورهم الكاتـب المصري صلاح عيسى

«شخصيـات لهـــا العجب»تطلّ بملامـح جـديدة

قلم صلاح عيسى تحول إلى ريشة في «شخصيات لها العجب». الإمارات اليوم

مثقفون وعسكر، مناضلون ومنكسرون، سارقو فرح وباعة أوهام، وجهاء وصعاليك، نجوم منحتهم الحياة أدوار بطولة لا يستحقونها، ومهمشون لم ينالوا ولو حيز الكومبارس.. نماذج يتوقف أمامها الكاتب صلاح عيسى في صفحات كتابه الجديد «شخصيات لها العجب»، كاشفاً عن جوانب خفية لوجوه كان معظمها ذا تأثير في التاريخ المصري المعاصر. وحالة العجب لها أكثر من وجه في الكتاب، فقد تثيرها شخصيات رمادية مثيرة للجدل لها وعليها، وأخرى بيضاء لم تحد عن مبادئها، وثالثة اتسمت حياتها بالتحولات الدرامية، فانتقلت من حيز إلى آخر، من الأضواء إلى العتمة، أو من موقع السجان إلى السجين، أو من الاعتدال إلى التطرف.

يعيد قلم صاحب «تباريح جريح» رسم بورتريهات شخصيات تفاجئ المتلقي بإطلالات مخالفة للمتعارف عليه، فالملك فاروق ليس ملك مصر والسودان والقمار والخمر و«النسوان»، كما أشاعت عنه ذلك واكثر الدعاية «السوداء»، إذ وجدت في المقابل شهادات تنتصر له، وتراه حاكماً غيوراً، صاحب مشروع لإعادة بناء الجيش، كي يمحو «اسرائيل» من خريطة الوجود. أما مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، فليس مسؤولاً عن العنف الذي شاب تاريخ الجماعة، كما زعم مؤرخون، بل شخصية غير عادية، وداعية موهوب، ومنظم عبقري.

ويتحول قلم عيسى إلى ريشة ترسم صورة كاريكاتيرية لمحمد حسنين هيكل، تسخر من احتراف الأخير «الكهانة» في العهد الناصري، معتبراً أن هيكل ليس اكثر من تنويع على ثنائية مصرية شهيرة وكثيرة التكرار، وهي ظاهرة «الفرعون والكاهن»، ولعلها الثنائية التي وصف بها البعض عيسى نفسه، ممن رأوا أن مؤلف «مثقفون وعسكر» صار كاهناً في محراب وزارة الثقافة المصرية، بعد توليه رئاسة تحرير مجلة «القاهرة» التابعة للوزارة، مشيرين إلى أن الحصان البري الذي لم يروّضه سيف المعز، روّضه ذهبه، لاسيما بعد أن وهن عظم الصحافي الذي كان مشاغباً، وضيفاً دائماً على معتقلات عبدالناصر والسادات.

يمزج «شخصيات لها العجب» (593 صفحة من القطع الكبير) والذي نشرت كثير من مقالاته في صحف ودوريات مختلفة أثبت المؤلف بعضها، فيما بقيت اخرى بلا توضيح زمني، يمزج بين الذاتي والموضوعي، فتتجاور في الكتاب ذكريات عيسى مع التراجم الغيرية والدراسات التوثيقية، بحكم أن الكاتب صاحب تجربة طويلة في البحث في اضابير التاريخ، والتنقيب في الوثائق، ما جعله لا يقبل بخفة التقارير التي لا تستند إلى شواهد، ويأبى قلمه أن يخضع لشهادة مرّسلة عن زعيم أو ثوري، طالما لم يجد دلائل موثوق بها.

تتسلل شخصية عيسى في كتابه الصادر أخيراً عن دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، فالكاتب شاهد على كثير من الحوادث، ومتابع عن كثب لرموز عدة، عايش أصحابها، وشاركهم غرف الزنازين أحياناً، ولذا يضع المتلقي يده على بعض ملامح عيسى، وآرائه في امور حياتية وسياسية مختلفة، ويستشعر حرارة خاصة تسري في الصفحات حينما يتذكر المؤلف ايامه في السجون، أو يرثي صديقا، أو يؤبن عزيزا، كما صنع مع المناضل والمحامي المصري فتحي رضوان، وبعض الأسماء الأخرى التي لم تنل حظها من الشهرة والصيت. ومن بين أبرز المواقف التي ظهرت فيها شخصية صلاح عيسى، ذلك الموقف الذي جمعه بوالده، إذ سرد الكاتب بشكل حميم تفاصيل مشهد مؤثر بعد خروجه من السجن في زمن المشاغبات القديم، قائلا: «مازلت اذكر ان جلستنا الطويلة (مع أبيه) عقب استردادي حريتي، بدأت بالفرح، وانتهت بالدموع، هنأني بالإفراج، وعزاني عن الفصل من عملي، ودسّ في جيبي جنيهات استعين بها على تسيير اموري، ثم تمنى علي ان اكف عما افعله، ولم يكن يعرفه بالضبط، وان ابتعد عن الطريق الخطر الذي اسير فيه، فأنا ابنه الوحيد الفالح الذي يعلق عليه الآمال في شيخوخته، ويدخره لسنوات يعجز فيها عن العمل، وربما عن الحركة، وكنت اطمئنه الى انه لا شيء هناك، وأن الحكاية كلها سوء فهم دون ان اتورط في وعد لم اكن اريد ان اقيد نفسي به».

صحافي وباحث

http://media.emaratalyoum.com/inline-images/332270.jpg

صلاح عيسى صحافي وكاتب مصري، وباحث في التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي، ولد عام ،1939 ونشر مقالاته وأبحاثه في كثير من الصحف والدوريات العربية، وأدار ورأس تحرير عدد من الصحف المصرية، منها الثقافة الوطنية، والأهالي، والصحافيون واليسار، والقاهرة. تعرض للاعتقال والفصل مرات عدة بسبب آرائه السياسية. وأصدر أكثر من 20 كتاباً منها «شاعر تكدير الرأي العام.. الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم»، و«هوامش المقريزي» و«حكايات من مصر»، و«الثورة العرابية»، و«مثقفون وعسكر»، و«رجال ريا وسكينة»، و«البرنسيسة والأفندي».

وبأسلوب حكائي متميز يواصل عيسى صاحب بعض الأعمال القصصية تكملة المشهد «لابد ان الرجل العجوز قد فهم بخبرته انني على العكس مما ازعم، متورط بالفعل في شيء مما انكره، وانني سأواصل هذا الطريق على الرغم من انكاري، وانني اضحك على ذقنه، واستهين بشيبته. وكان حرصه علي ورغبته في حمايتي هما اللذان دفعاه في نهاية المناقشة الطويلة التي اكتشفت خلالها أنني أراوغه الى شيء بدا لي غريباً ومذهلاً، فإذا به ينحني على يدي ويقبلها، وهو يقول لي: (وحياة النبي تبعد عن السكة دي.. مش عايز اموت وانت مسجون). ولم يكن قد فعل شيئا من ذلك مع احد من قبل، إذ كان دائما وقوراً جليلا محترما مع زملائه واصدقائه وجيرانه، ويتميز بأنفة وكبرياء واعتزاز بذاته يغلفه بمسحة من التهذيب في التعامل مع الآخرين تزيد من مكانته في قلوبهم. لحظتها بكيت، وانحنيت على يده اقبلها واحتضنته».

كما أفرد كتاب عيسى مساحة كبيرة لرجالات ثورة يوليو 1952 الحقيقيين، حضرت ايضا في الكتاب شخصيات فنية مستمدة من الحدث، ولكن هذه المرة من دنيا نجيب محفوظ، إذ تتبع عيسى الذي كان أحد المرتادين الدائمين لندوة أديب نوبل الأسبوعية، أثر الثورة على شخوص الأديب المصري، وقدم لها قراءة نقدية يغلب عليها الطابعان الاجتماعي والسياسي في فصل ختامي بعنوان «شخصيات من زمن نجيب محفوظ وزماننا».

يتناول عيسى آراء محفوظ الصريحة في الثورة، وزلزال هزيمة 1967 الذي غير قناعاته، كما روى للناقد الراحل فريد النقاش «لم يحدث في حياتي كلها قبل ذلك أو بعده أن شعرت بانكسار في الروح، مثلما شعرت به في تلك اللحظة.. كانت هزيمة يونيو هي خيبة الأمل الأخيرة، التي قطعت كل ما بين نجيب محفوظ وثورة يوليو من وشائج عاطفية، وسياسية، فقد أدرك أنه كان يعيش في وهم كبير، وأن أحلام الثورة التي عاش في ظلالها الوردية قد تكشفت عن وهم كبير، وعن واقع مؤلم؛ لأن الثوار لم يكونوا على مستوى الثورة ومبادئها» فليس بالثورات وحدها تتحقق الأحلام، حسب المؤلف.

ومع أن تلك الآراء فاجأت كثيرين، إلا أن عيسى يرى أن الجديد فيها أنها أتت دونما مواربة على لسان محفوظ، على الرغم من ان شخصياته صرّحت بأكثر من ذلك، خصوصا في روايات «اللص والكلاب»، و«السمان والخريف»، و«الطريق»، و«الشحاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«ميرامار»،

تويتر