الكاتبة الإماراتية مريم الشحي: أنا ابنة الروايـة البارة
«أنثى ترفض العـيش».. بكاء على أكتاف متخيلة
«أنثى ترفض العيش».. حكاية حزن طويلة. الإمارات اليوم
حين تقسو الحياة، فتضرب أعماق الروح، يجد البعض في ذلك، مبررات للعيش على هامش الحياة، ونصب خيمة عزاء لا تنفض داخل القلب، والاكتفاء في هذا العالم، بالبكاء على أكتاف متخيلة لمن رحلوا، واجترار ذكريات أحبة غابوا، والشكاية إليهم عبر رسائل لن تصل، كما صنعت ـ إلى حد ما ـ نورة، بطلة رواية «أنثى ترفض العيش» للكاتبة والتشكيلية الإماراتية مريم مسعود الشحي، فنورة حازت لقب اليتيمة مبكراً، وعلى دفعات، الأولى حين فقدت أمها، وهي لم تعي بعد معنى الموت، والثانية حين رحل، وهي صبية، أبوها ومعلمها ومشكل قيمها، وأخيراً ثالث الأحزان، حين غاب السند الأخير لها، الجد الذي تركها وحيدة وهي في نهاية المرحلة الجامعية.
شرنقة كثيفة من الأحزان غزلتها مريم الشحي التي تصف نفسها بـ«ابنة الرواية البارة»، حول بطلة عملها، بشكل غنائي لا حدثي أحياناً، وبلغة شعرية تحاول أن تجد سلوى في الفضفضة إلى الورقة، ومحاورة الراحلين، خصوصاً الأب الذي تكتب إليه نورة رسائلها في الرواية، وتبوح له بما طرأ على حياة ابنته بعد غيابه، لاسيما بعد أن فاض كيل أحزانها، عقب موت الجد.
مع الراحلين
|
بين الريشة والقلم بدأت علاقة مريم مسعود الشحي، التي ولدت في إمارة رأس الخيمة، وتعمل في أبوظبي، مع الكلمة مبكراً، رغم أن النشر جاء متأخراً، حسب قولها، مضيفة «لاحظت تعلقي بالقلم منذ صغري، إذ كنت أقضي أوقاتاً طويلة برفقته حتى ظننت أن اصبعاً سادساً نبت في يدي اليمنى». وعن أوقات لجوئها إلى القلم، ومتى تفزع إلى الريشة وفضاء اللوحة، خصوصاً أنها فنانة تشكلية، فتقول مريم «القلم والريشة وسيطان لتبديد مريم الداخلية ـ أي روحي وبعثرتي ـ أو وسيلتان لرتق جروح ما، أو لنثر رماد التساؤلات التي ينشط بها عقلي في أحايين كثيرة، أو لرسم فقاعات الفرح والبهجة، الكتابة ملاذي الأول في عالم أعيشة، إذ بعدت عن أهلي باكراً للدراسة والعمل، فأنا أسكن بين مدينتين، وأنتقل بينهما أسبوعياً، مدينتان إحداهما تسكنني وأخرى أسكنها.. فكانت تلك الأدوات من كتابة ورسم هي أصدقائي المقربين جداً الذين أتكئ على أكتافهم، ولا يخذلونني، فكلما تبعثر داخلي لجأت اليهم لأسطر كلمة تحمل فكرة، أو أرسم حرفاً يخلد اعجابي به». وتتابع «الريشة حكاية أخرى، أو فصل آخر من كتاب حياتي، كلما أحتشد اللون داخلي أغمسة في حرف، أزاوج بين الريشة والحرف في تلك اللوحات التي أحيكها من لون وحرف وقطعة قماش أو كراسة بيضاء لأدثر بها برودة حاجاتي». وحول جديد مريم، هل هو معرض تشيكيلي أم رواية.. أم قصيدة، تضيف «داخلي مؤثث بحكايات جديدة وكثيرة، ولوحات لم تُرسم بعد، ولم تُعلق على جدران الواقع، وكُل تلك الأشياء هي جديدة باستمرار، لكن الجديد الملموس هو عمل روائي، انتهيت من كتابتة وسأدفع به قريباً ـ بإذن الله ـ إلى المطبعة وهو حكاية فراشة من نور». |
تدور الرواية (110صفحات، صادرة عن دار الفارابي في بيروت العام الماضي) حول نورة التي تنضج ثمار أحزانها في لحظة ما، فتتساقط دفعة واحدة على الورق، بعد رحيل الأب تحديداً بسنوات سبع، تسطر البطلة حكايتها بكثير من الدموع، وتحاول دفن «جثة أحزانها» عبر الكتابة، تستدعي الفتاة الأب الغائب، وتحاوره، وفي نهاية فصلين تقول له «تصبح على خير»، وتتبادل معه الذكريات، وحين تختار حبيباً تقع على وجه آخر لأبيها، ويظلان معاً لفترة، ثم تقرر أن تقطع العلاقة لتهب نفسها لعمل نبيل، وتنضم إلى «ملائكات الرحمة» في مهنة التمريض، لعلها تجد في ذلك ما يمتص أحزانها.
وترى مبدعة «أنثى ترفض العيش» أن بطلة الرواية لم تكن غائبة تماماً عن واقعها، أو سارحة دائمة مع الراحلين، مضيفة لـ«الإمارات اليوم»: «لم تكن نورة فقط تعيش داخل بوتقة الرفض، بل كانت تمارس حياتها بشكل سطحي، ففي بداية القصة تحكي أنها عائدة من عملها الصاخب، والعمل في وظيقة صاخبة هو بحد ذاته حياة»، مستدركة بأنها كانت تسرح في لجة الأسئلة التي كانت تتكاثر داخلها، ولا تجد لها إجابات، إذ اعتادت أن تسمعها غالباً بصوت والدها (حمد) الذي غيبه الموت، «توالت الأسئلة، وكبرت، في غيبة المجيب، لذا بدت نورة وكأنها تعيش على ضفاف الحياة، إذ صارت أيامها مُسيرة للخلاص من الحالة النفسية التي حولت بساتين الأمل التي زرعها والدها داخلها، لا سيما أن الأب لم يكن رجلاً عادياً، بل كان مثقفاً من الطراز الواعي الذي لم يتعامل مع الابنة بشكل تقليدي، ولا تخبو أسئلة نورة إلا لتستقيظ أكثر ضراوة، لذا قد يجد من يقرأ الرواية أن بطلتها كانت تعيش أو تسرح في عباب الحزن الذي يجعلها تحاكي الراحلين فقط».
لغة شعرية
رغم طغيان اللغة الشعرية على صفحات طويلة في الرواية ـ سواء عبر لغة الكاتبة، أو حتى الاقتباس من مبدعين آخرين ـ الا أن مريم الشحي تعتبر نفسها «ابنة الرواية البارة»، لافتة إلى أنها كتبت العمل بأسلوب شعري لأنها تعتقد أن ذلك الشكل من الكتابة هو الأقرب إلى وجدان كثير من القراء «أجد أن الكتابة الروائية الجافة، أي التي لا تبتل بذرات الشعر هي أقرب للتقارير، نعم للرواية أركان ثابتة ترتكز عليها، لكن الشعرية في الكتابة هي ركن آخر أظنه يجب أن يكون هناك.. لا أعني بذلك وجوبية وجوده، لكن إن وجد فهذا ينفع العمل كثيراً، أما الشعر بالنسبة إليّ فهو فن لا أجيد فك رموزه إلا بالتذوق فقط، بعيدة طرقاتي عن الشعر، وتنحو بشكلً كبير صوب الرواية، أو فن النوفيلا، أو القصة الطويلة».
وترفض مريم الربط بينها وبين بطلة «أنثى ترفض العيش»، رغم وجود قسمات عدة بين الاثنتين، مشيرة إلى أنها لا تفضل القراءة التلصصية التي تعتبر المبدعات يسطرن فصولاً من حياتهن وسيرهن في كل ما يكتبن، مضيفة «مجازفة كل مبدع، خصوصاً الروائي، أن يضع نفسه دائماً تحت مجهر ليتم الربط بينه وبين الشخصية التي أبدعها أو حلل دواخلها، ليظهرها إلى القراء، نعم حين كتبت نورة كانت داخلي تمر تلك الهواجس التي كانت تربط بيني أنا حقيقة وبين نورة، لكن أيضاً أنا أعتقد أن كل كاتب يمرر عبر شخوصه شيئاً كثيراً أو قليلاً منه.. وعبر نورة مرّرت شيئاً مني، لكن كل نورة هي أنا فلا».
حالة حزن
حول الكمية الكبيرة من الراحلين والمحزون عليهم في عالم الرواية، وولع قلمها بالحزن ورثاء الأحبة، تقول مريم «عقدة الفقد هي عقدة حقيقية في ذاتي، وحين يرحل أحدهم عن عالمي، أو يواريه الموت خلف تلال الغياب، فإنني أدلف إلى ما يُسمى بحالة الحزن الطويلة. وهذا حقيقة ما كان يدور داخل نورة، إذ كانت تعيش حالة حزن طويلة وعميقة في آن واحد على والدها الذي علمها كُل أبجديات الحياة ورحل، وفي (أنثى ترفض العيش) حقيقةً كُنت أكتب حالة الحزن التي أخاف منها أنا، حين تبكي نورة أباها هناك وترثيه، كنت أحاول أن أخرج من داخلي شيئاً من ذاك الحزن، أو أصف البعثرة التي توازي دائماً الفقد في داخلي، فحين كُنت أحكي على لسان نورة بأن بين الفقد والموت وتفكيرها مجالاً شاسعاً كُنت أحكي شيئاً من خوفي».
وتعلل مريم مساحات السرد الممتدة في الرواية على حساب وقفات قليلة مع الحوارات التي كان قلمها مميزاً فيها، قائلة: «أجد ذلك أجمل في الروايات، ولا أعني هنا أن الحوارات ليست بالأهمية ذاتها أو الجمال، لكن أعتقد أن ذلك ما استدعته طبيعة روايتي، إذ ساعد ذلك التكنيك البطلة، وأعطى لها مساحة بوح، ومنحها فضاء أكبر لإيصال أفكارها، ووصف الحالة الوجدانية التي كانت تعيشها».
ورغم أن نهاية «أنثى ترفض العيش» جاءت متسقة مع مسيرة البطلة، ختاما حزينا مفتوحا، إلا أن شخصيتي العمل الرئيستين بدا أنهما تستعذبان عذابهما، ومستسلمتان لحزنهما، فالشاب الذي تعلقت به مريم (خليفة) لم يصنع شيئاً، سوى تصبير البطلة بكلمات، الأمر الذي لا تعتبره مريم الشحي استسلاماً ورضوخاً من قبل بطلي الرواية، موضحة «قد يجد بعض القراء أنه كذلك، لكن بالنسبة لخليفة ليس استسلاماً، بقدر ما هو تضحية من أجل الحب، تلك التضحية التي جعلته يضحي بسعادته بقرب من يحب، تقديراً لرغباتها هي، أما خيارات نورة فكانت مرتبكة بسبب حالة الحزن التي كانت تعيشها.. كذلك اختيارها لم يكن استسلاماً، ففي الفصل الأخير حين تنسحب تولي وجهها شطر عمل جديد، وهو التمريض، تترهبن في دير العطاء على حد تعبيرها وهذا في حد ذاته ليس استسلاماً بل هذا اتجاه آخر للحياة».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
