فاز بجائزة أفضل عمل تسجيلي في مهرجان أبوظبي السينمائي

«المطلوبون».. 18 بقرة تهــدد أمن إسرائيل

قصة قد لا تصدق، وقد تعتبرها من الأساطير، لكنها حقيقة، أجمل ما فيها هو تكاتف السكان في حماية الأبقار، وتحمل نزق وقسوة الجيش المحتل في مداهمتهم، حتى إنهم أقروا حظر التجول كي يستطيعوا القبض على تلك الأبقار، التي حققت لبلدة بيت ساحور منتوج الحليب والألبان، وهذا من شأنه استغناؤهم عن منتجات الدولة المحتلة. من المصدر

أن تعود 25 عاماً إلى الوراء، هو أن تشعر لحظة بأنك على وشك انتصار، هي حالة المدنية التي تتحدى كل أشكال الاستعمار والاحتلال، هو الإبداع الذي يتناغم مع الحلم الذي لم يتحول إلى حقيقة عندما قرر الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات (أبوعمار)، إشارة إلى اتفاقية اوسلو، هو الفيلم الوثائقي الحائز جائزة أفضل فيلم وثائقي عربي في الدورة الثامنة من مهرجان أبوظبي السينمائي.

«المطلوبون الـ18»، للمخرجين عامر الشوملي وباول كاون، المقيمين في رام الله، فيلم تعتقد من عنوانه كفطرة عربية أن المطلوبين هم فدائيون، لكن المفاجأة أنك ستعي من الخمس دقائق الأولى أن المطلوبين لدى سلطات الاحتلال هم 18 بقرة، أعلن فيها الكيان وقتها أنها تهدد أمن إسرائيل، وهل يوجد أكثر من ذلك كدليل على هشاشة دولة مزعومة بنيت على أنقاض جثث وبيوت ومزارع وأشجار الفلسطينيين؟

إليكم الحكاية، وهي مبنية على وقائع حقيقية، وجدت طريقها في الانتفاضة الأولى عام 1987. المكان تحديداً في بلدة بيت ساحور، حين قرر عدد من شبابها أن يشتروا 18 بقرة من مستوطن إسرائيلي، أظهره المخرج وهو يضع علامة الحزب الشيوعي، 18 بقرة لشعب لا يعرف كيف تربى الأبقار، فثقافة المواشي مقتصرة على الخراف، هو تحد بالنسبة لأهالي بيت ساحور، الذين اتحدوا للتهليل لوصول تلك الأبقار إلى بلدتهم، ما تسبب في صداع رأس للجانب المحتل.

الشوملي، وهو رسام بالأساس، اعتمد في فن الإخراج الدمج بين صور واقعية تختصر على من ظل على قيد الحياة من الشباب الذين قرروا ابتياع الأبقار، ورسم كرتوني له علاقة بفن السرد والعودة إلى الوراء، إضافة إلى أن الفيلم مبني على قصة قرأها الشوملي وهو صغير ومقيم وقتها في مخيم اليرموك في سورية، قصة مجنونة، حسب صوته الذي بدأ فيه أحداث الفيلم وهو يمضي ماشياً في صحراء القدس، واختار من 18 بقرة أربع بقرات، ليس مصادفة، بل لأنها علقت بذاكرته من ناحية، ومن ناحية أخرى الشخصيات التي رسمها لتلك الأبقار الأربع لها علاقة فعلاً بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فالبقرة «ريفكا» بقرة السلام، والبقرة «روث» التي تكره الفلسطينيين، والبقرة «لولا» الحامل التي يصفها الشوملي بالمثيرة، و«جولدي» المتشددة.

أن تسمع قصة فلسطينية على لسان أبقار، ليس بالشيء السهل، لكن الذكاء الذي تم توظيفه بتلك الأبقار بحد ذاته حكاية، تواطأت حيناً وتباعدت حيناً مع ملاكها الجدد من الفلسطينيين.

فن التحريك في الفيلم لبطل من أبطاله، ومزجه مع الواقع جعله لا يتجزأ عن أحداث الحكاية. إنك تبكي وتضحك في اللحظة نفسها، خفة الظل تتطور مع الأحداث المرتبطة بتحدي الكيان الذي يملك أكبر ترسانة عسكرية على وجه الأرض، لم يكن سوى تسليط الضوء على أصحاب الحق، ربما يأتي السؤال وماذا بعد؟ الجواب عنوانه واحد هو «الاكتفاء الذاتي»، وهذا العنوان كان كفيلاً بأن يجعل إسرائيل ترسل 400 جندي من جيشها لمداهمة بلدة بيت ساحور، مهددة أهاليها بضرورة تسليم الأبقار ليسلموا، ووضعوا صوراً للأبقار تحت عنوان «مطلوبون».

قصة قد لا تصدقها، وقد تعتبرها من الأساطير، لكنها حقيقة، وأجمل ما فيها هو تكاتف السكان في حماية الأبقار، وتحمل نزق وقسوة الجيش المحتل في مداهمتهم، حتى إنهم أقروا حظر التجول كي يستطيعوا القبض على تلك الأبقار التي حققت لبلدة بيت ساحور منتوج الحليب والألبان، وهذا من شأنه استغناؤهم عن منتجات الدولة المحتلة. تقول إحدى الشخصيات في الفيلم «عند لحظة وصول الأبقار إلى المزرعة، شعرنا بحريتنا واستقلالنا»، ويقول آخر «الفكرة بحد ذاتها جعلتنا نصمد، لأننا اعتقدنا أن الانتفاضة ستطول».

مع كل هذه المشاهد الواقعية، تظهر المشاهد المرسومة للأبقار، وتدخل الكاميرا إلى حظيرتها، وتنقل التحول في مواقف الأبقار التي كانت مستاءة بوصولها إلى بلدة بيت ساحور، وكيف أصبحت مساندة بعد مدة لتلك البلدة، بل ومتواطئة أيضاً، ضمن مشاهد مضحكة وعميقة في طرحها للأفكار، بأن حتى الأبقار وعت الحقيقة وأنسنت نفسها.

المشاهد كثيرة في الفيلم، وأشكال الصمود والتحدي أكثر، ودور النساء «الساحوريات» يستحق المتابعة، إنه من الأفلام التي لا مبالغة في المطالبة بأن يتم تدريسها للأطفال في المدارس، وأن تبث عبر «يوتيوب» ليشاهدها أكثر عدد ممكن من المشاهدين في العالم. هذا الفيلم ينقلنا إلى دواخل الناس عندما تمسكوا بالأمل يوماً، خلال الانتفاضة، هذه الكلمة التي لا ترجمة عالمية لها، واستطاعت أن تكون مصطلحاً جديداً عالمياً لا يفسر، جعل من بلدة بيت ساحور معتزة، ومنتفضة هي الأخرى، فخياطة الأعلام الفلسطينية بالسر، المنشورات بالسر، وحتى الشخصية الرئيسة في الفيلم، انطوان الشوملي، المطلوب أيضاً لدى الاحتلال، كانت حياته بالسر، ينتقل من بيت إلى بيت، إلى أن قرر أهالي بيت ساحور تخبئته مع الأبقار.

انطوان الشوملي الشهيد، وهو ابن عم عامر الشوملي، وجوده في الفيلم كان ضرورة ليكتمل شكل الحكاية، من خلال شاب مسك كفنه بيديه وقرر المقاومة، من جانب هذا شكل يراد له أن يستمر، ومن جانب آخر مقاومة أهالي بلدته باكتفائهم الذاتي، فباتت الصورة مكتملة كالبدر، لا ينقصها سوى أن تنتقل إلى بلدات مجاورة، وهذا كان الهدف الأسمى، لكن تأتي عبارة تكسر كل ذلك، «وقرر أبوعمار»، هذه الجملة التي ظهرت على الشاشة الكبيرة كانت تفسيراً لمعاهدة أوسلو.

هل سيصدق المشاهد أن رعاة البقر، وهم معظمهم إما أطباء أو صيادلة أو مهندسون، كانوا يذهبون كل يوم للتحقيق معهم، حتى انهم وجدوا صيغة لكسر ملل الانتظار في غرف التحقيق بأن أصبحوا يلعبون النرد تارة، ويقومون بشواء اللحم تارة أخرى، نعم هذه حقيقة، لكن «أبوعمار قرر»، هل سيصدق المشاهد، أن بياناً خرج من إسرائيل يجبر أهالي بيت ساحور على إقفال الحظيرة، بعد أن تم اكتشافها، وأنه بالفعل تم إغلاقها، لكن الأبقار انتقلت من بيت إلى بيت لحمايتها، ما زاد من صداع رأس الكيان المحتل، الذي كان يفتش البيوت كل يوم، بعد أن نشر أهالي بلدة بيت ساحور أن الأبقار تم بيعها لجزارين. وأن الأبقار تواطأت فعلاً مع الأهالي بأنها لم تصدر صوتاً واحداً، لكن عندما قرر «أبوعمار» معاهدة أوسلو، تم بالفعل بيع الأبقار لجزارين وتقطيعها. يقول أحدهم «كنا قريبين من النصر كثيراً، وإلى هذه اللحظة لم ندرك ما حدث». الفيلم الوثائقي الذي لن يشعرك بالملل لحظة، هو فيلم مصنوع بحرفية عالية، استطاعت أن تجعل المشاهد يندمج مع أحداثه، ووعى فكرة أن كل شيء توقف في لحظة استشهاد انطوان الشوملي، وذبح الأبقار، ترى الدموع في شخصيات الفيلم الحقيقة التي كانت بعنفوانها وصلابتها وهي تحكي الماضي، وتشعر بالانكسار والشعور بالفقدان وهي تحكي الحاضر، ومع أحداث الفيلم نذكر أغنية الشيخ امام الشهيرة «بقرة حاحا النطاحة». إنه فيلم يجب على مخرجه أن يدرك أنه لن يسمح له، سينمائياً ولا إنسانياً، أن يقدم في المستقبل أقل من قيمة فيلمه الأول «المطلوبون الـ18».

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر