«أبوظبي السينمائي» يعيد إحياء باراجانوف

«عاشق غريب».. لوحات تقف أمام كاميرا سينمائية

فيلم «عاشق غريب» من بطولة يوري موجيان وراماز شيكيدفاز. من المصدر

يطلّ اسم المخرج الأرمني الراحل سيرجي باراجانوف من جديد، بعد إعلان مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي في دورته الثامنة عن عرض فيلم «لون الرمان» من خلال مشروع «سينما العالم»، ضمن عدد من الأفلام الكلاسيكية العالمية، التي تم ترميمها حديثاً، إذ سيتيح المهرجان في دورته المقبلة للجمهور مشاهدة مثل هذه النوعية من الأفلام التي تختلف طريقة صناعتها فنياً عن ما يتم عرضه في الوقت الحالي، وسيطرة الأفلام الثلاثية الأبعاد على ذائقة كثيرين من محبي السينما.

واحتفاء بذكرى باراجانوف، من الجميل المرور على آخر أعماله السينمائية التي أنتجها عام 1988، وحملت عنوان «عاشق غريب» الذي تدور أحداثه في طقوس من أذربيجان وتركيا، وهو من بطولة يوري موجيان وراماز شيكيدفاز.

المجازفة في مشاهدة فيلم لباراجانوف ليست في طريقة توظيفه العناصر الفنية لصناعة فيلم، بل تتعداه، إذ ينبغي أن تكون كمشاهد مطلعاً على سيرته الذاتية التي أثرت كثيراً في طريقة تعاطيه مع الحكايات السينمائية العديدة التي قدمها، والتي تأثرت بدورها بالسنوات التي قضاها المخرج في السجون السوفييتية، ولأنه من أصول أرمينية، ولخصوصية قضية بلاده تاريخياً، وبسبب المحطات التي عاش فيها ولجأ إليها، تراه متأثراً بثقافات شعوب متعددة، بين جورجيين وآذريين وأتراك وأوكرانيين وغيرهم.

باراجانوف من الممكن أن يبني حكاية سينمائية كاملة على قصيدة شعر، أو لوحات فنية، وهذا ما حدث في جل أعماله، فلديه طريقة خاصة في الكشف عن تفاصيل ما يريد إيصاله، الحوار في الفيلم يكاد يكون معدوماً؛ باستثناء عبارات إذا لم توجد لن يتأثر المشهد، ناهيك على أن معظم قصصه مبني على علاقة حب فيها مطبات كثيرة، كما حدث في فيلمه «ظلال أسلافنا المنسيين»، الذي يحكي قصة حب بين شاب وفتاة بين عائلتيهما ثأر، أما في فيلم «عاشق غريب» فحكاية العشق بين شاب يعزف على آلة البزق، فقير الحال، يقع في حب ابنة تاجر كبير وغني.

القصة مبنية على قصيدة كتبها الشاعر الروسي ميخائيل ليرمنوف بناءً على قصة روتها له يوماً امرأة تركية، وكانت هذه القصة الأحب إلى المخرج عندما كانت ترويها والدته له قبل النوم، وظلت في خاطره إلى أن استطاع تحويلها إلى فيلم.

بطل الفيلم عازق البزق الفقير المنشد في الجوامع، تراه في بداية الفيلم المملوء باللوحات الفنية، وعلى الأغلب هي من رسم المخرج الذي امتهن الرسم أثناء فترة حبسه، يلهو مع حبيبته يرمي عليها الأرز، ويأخذها بعيداً ليأكلا ثمرة الرمان المنتشرة في كل مشاهد الفيلم، وبين أصوات الموسيقى الكنائسية الممزوجة بتكبيرات الجامع تولد حكاية العشق، التي يريد لها البطل أن تتكلل بالزواج، لينتقل المشهد، بصورة سوريالية، إلى الأم والشقيقة وهما تعطران العاشق بالورد، وتلبسانه أحلى ثيابه؛ أملاً في موافقة التاجر الكبير (الآغا) على طلبه في قبول تزويج ابنته، وهنا تظهر الدراما في الفيلم، حيث يرفض (الآغا) الطلب، بطريقة استهزائية كوميدية، والسبب فقر حال عازف البزق، تهرع الحبيبة إليه، وتعده بأن تنتظره ألف يوم، ولا تتزوج غيره، على أمل أن يعود العاشق من رحلته التي عزم عليها لتجميع المال قبل الألف يوم.

المتتبع لتسلسل الأحداث يشعر للحظة أنه أمام معرض فني، إذ تخرج فجأة اللوحات الفنية من الإطارات على خشبة مسرح، والمصادفة وحدها جعلتها تقف أمام كاميرا سينمائية، فالمشاهد أقرب إلى المسرح منها إلى السينما، وهذا أسلوب باراجانوف، فالسوريالية حاضرة، وتشكيل المشاهد أقرب إلى رسم لوحة، والموسيقى تمزج بين تركيا وأذربيجان وأرمينيا، ورغم أن الأبطال مسلمون، إلا أنهم يعتقدون بكل ما حولهم من طقوس أخرى.

قرر «عاشق غريب» أن يجوب العالم لتأمين المال وإنقاذ حبيبته التي قرر والدها تزويجها، ومع أن ثمة شائعة انتشرت في قريته أنه مات أثناء رحلاته، وارتدت الأم الأسود حداداً عليه، وفقدت بصرها، ونذرت حبيبته أن ترتدي الأسود أيضاً إلى أن تمضي مدة الألف يوم، إلا أن ثمة رابطاً عاطفياً يجمعهما؛ جعلها لا تصدق نبأ وفاته.

لا تتوقع كشاهد أن تسمع حواراً في الفيلم، لأن الصورة البصرية فيه تطغى على أي كلمات قد لا تكون لها حاجة، وهناك ترجمة فعلاً لقصائد عبر أداءات مسرحية ولوحات فنية، وفهم الفيلم سيكون صعباً، وأحياناً يكون مملاً، إلا إذا حاول المشاهد أن ينظر إلى المشهد بعين الباحث عن الجمال، عن شيء فريد يجعله يبتسم، وهذا هو سحر الفيلم.

يحب باراجانوف الفلكلور، ويعتبره جزءاً جمالياً لابد من توظيفه، وللثقافتين التركية والأذرية في الفيلم الكثير من المشاهد، سواء في الطقوس، أو الفرح الذي لابد من وجود الدبكة الشعبية فيه.

خلال تجوال العاشق العالم على أمل أن يصل إلى بلاط السلطان، يمر على قرى عدة، ومن ضمنها قرية يعاني سكانها العمى، يقيمون عرساً، الجميع فيه عميان، يرتدون أجمل الملابس والزينة، يأتي من وراء سور ويبدأ العزف، يطربون له، ويرقصون فرحاً به، ويغدقون عليه بالهدايا، تليها قرية يقام فيها زفاف أيضاً، سكانها من الصم والبكم، يعزف لهم ويغني فيطبرون أيضاً، وهنا يريد باراجانوف أن يحكي قيمة الموسيقى، التي قد يطرب لها الأصم إذا كانت نابعة من القلب، حين ينظرون إلى عيون العازف ويشعرون به فإنهم يطربون.

يتحقق مراد العاشق الغريب، ويصل إلى بلاط الباشا، ويعجب به، ويغدق عليه الأموال، فيقرر العاشق العودة إلى قريته، يتنكر ويدخل إلى قصر الآغا، الذي كان يومها يحضّر لزفاف ابنته، ويسمع صوت أمه وهي تنوح، وحبيبته تجلس مرتدية فستانها الأبيض وفي يدها سكين كي تقتل نفسها، يصرخ العاشق الغريب، فتسمع الأم صوته، لكنها لا تصدق، فيمسح على عيونها ليعود إليها البصر. وهنا حول باراجانوف القصة إلى منحى له دلالات وعلاقة بمعجزات، ويحتفي الجميع بعودة العاشق، وتقف القرية بأكملها معه ضد جشع التاجر الذي رضخ هو الآخر للمعجزة، وحقق وعده بأن عاد إلى حبيبته قبل انقضاء الألف يوم.

ينتهي الفيلم بعد أن يتم زواج العاشق بحبيبته في أجمل الطقوس، وخلفهما لوحات عنونت بـ«الحريم»، تظهر فيها وجوه نساء جميلات ملتصقات الحواجب، تحكي قوة المرأة، وقدرتها على التحمل، لتكون الخاتمة بمشهد يضم العاشق الغريب وأمه أمام شجرة الرمان التي تحول لونها من الأحمر إلى الأبيض، وهو لون الحب والسلام.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر