ابتعاد أميركا عن لعب دور القوة العظمى يؤثر سلباً في النظام العالمي
إذا كان من الممكن اختزال جوهر الاستراتيجية الأمنية الجديدة التي تبنتها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في عبارة واحدة، فستكون: إعادة الولايات المتحدة إلى موقع الدولة الإقليمية بعد عقود من لعب دور القوة العالمية، حيث تبدأ وثيقة هذه الاستراتيجية بانتقاد واضح لمسار طويل من السياسات الخارجية الأميركية التي تعاملت مع الولايات المتحدة باعتبارها قوة مهيمنة على مستوى العالم، تسعى لحماية مصالحها في مختلف القارات، وتدعم العولمة، وتعتمد على المؤسسات الدولية، وتتحمل أعباء النظام العالمي.
وتطرح الوثيقة بديلاً عن هذا النهج، يقوم على ضرورة أن تعيد الولايات المتحدة تعريف مصالحها بشكل أضيق وأكثر تحديداً، فمع أن استراتيجية الأمن القومي تعترف بوجود مصالح أميركية مهمة في أوروبا وآسيا إلا أنها تؤكد أن المصلحة الأساسية للولايات المتحدة يجب أن تتركز في محيطها الجغرافي المباشر، أي في نصف الكرة الغربي.
وفي هذا السياق، تستند الوثيقة إلى «مبدأ مونرو»، وهو السياسة التي أعلنها الرئيس الأميركي السابق، جيمس مونرو، عام 1823، والتي حذرت القوى الأوروبية من أي محاولات استعمارية جديدة في العالم الغربي، كما تشير إلى ما يسمى بـ«نتيجة ترامب»، التي تشبه إلى حد بعيد «نتيجة روزفلت» التي أعلنها الرئيس ثيودور روزفلت لاحقاً.
مخاطر
وأوضح وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، في تصريحات حديثة أن شعار «أميركا أولاً» يعني إعطاء الأولوية للمنطقة التي تعيش فيها الولايات المتحدة، والتركيز على تعزيز مصالحها وقدراتها بمعزل عن الانخراط الواسع في شؤون العالم.
ويبدو هذا الطرح منطقياً للوهلة الأولى، غير أن الواقع الدولي يجعل تطبيقه محفوفاً بالمخاطر، فالولايات المتحدة اليوم هي أقوى دولة في العالم، وقد تعاظمت هذه القوة خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث تمكنت شركاتها العملاقة وتقنياتها المتقدمة من بسط نفوذها على نطاق عالمي.
ومن الصعب، بل من المستحيل، أن تكتفي دولة بهذه المكانة بمتابعة ما يجري في محيطها الإقليمي فقط من دون أن يترتب على ذلك آثار سلبية كبيرة، سواء عليها أو على النظام الدولي ككل، لاسيما في مرحلة تتزايد فيها الأزمات والصراعات.
المصالح الاقتصادية
ومن الضروري لفهم هذا الجدل العودة إلى السياق التاريخي الذي ظهرت فيه «عقيدة مونرو»، ففي ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة دولة صغيرة نسبياً، تعتمد على الزراعة، ويبلغ عدد سكانها نحو 10 ملايين نسمة، وتتكون من 24 ولاية، معظمها يقع شرق نهر المسيسيبي، ولم تكن حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي تتجاوز 2.6%، أي ما يعادل تقريبا عُشر حجمها الاقتصادي الحالي، كما أن قوتها العسكرية كانت محدودة للغاية إلى درجة أنها لم تكن ضمن أكبر 15 دولة في العالم من حيث عدد القوات المسلحة.
وفي إطار تلك المرحلة كان مونرو يعترف باستقلال عدد من دول أميركا اللاتينية التي تحررت حديثاً من الاستعمارين الإسباني والبرتغالي، ولذلك سعى إلى تحذير القوى الأوروبية الكبرى من التدخل لإعادة استعمار تلك الدول، وكانت عقيدته تقوم أساساً على مبدأ رفض الاستعمار ومنع التدخل الخارجي في شؤون الدول الأخرى.
أما اليوم فإن إسقاط هذا المنظور على الولايات المتحدة المعاصرة يبدو أمرا غير واقعي، فالولايات المتحدة أصبحت قوة عظمى ذات مصالح ممتدة في جميع أنحاء العالم، وبالتالي فإن حصر أولوياتها في محيطها الإقليمي يعني تركيزها على واحدة من أقل مناطق العالم أهمية من الناحية الاقتصادية، فالمصالح التجارية والاقتصادية الكبرى لواشنطن تقع خارج نصف الكرة الغربي، لاسيما عبر المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ.
خلل
وتوضح الأرقام حجم هذا الخلل في الأولويات، حيث بلغ حجم التجارة الأميركية مع دول أميركا اللاتينية كافة، باستثناء المكسيك، نحو 450 مليار دولار في عام 2024.
في المقابل، تجاوز حجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي 1.5 تريليون دولار، أي أكثر من ثلاثة أضعاف التجارة مع أميركا اللاتينية، بينما فاقت التجارة مع آسيا حاجز التريليوني دولار، ومع أن كندا والمكسيك ترتبطان بعلاقات تجارية وثيقة مع الولايات المتحدة، فإن اقتصادات الدول الثلاث مترابطة إلى حد يجعلها في بعض الجوانب أشبه باقتصاد واحد لأميركا الشمالية.
وعند صياغة استراتيجية «الاحتواء» التي أسهمت في انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، رأى الدبلوماسي الأميركي جورج كينان أن العالم يضم ستة مراكز رئيسة للقوة الاقتصادية، هي: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وأوروبا الغربية، والاتحاد السوفييتي آنذاك، واليابان، وكان يعتقد أن على واشنطن أن تحرص على بقاء المراكز غير السوفييتية في علاقات إيجابية معها.
ويمكن اليوم تحديث هذه القائمة بإضافة الصين، ودمج بريطانيا وألمانيا ضمن كيان أوروبي واحد، لكن جوهر الاستراتيجية يظل ثابتاً: الحفاظ على علاقات قوية مع مراكز الثقل الاقتصادي العالمي، غير أن استراتيجية الأمن القومي التي تبنتها إدارة ترامب تبدو وكأنها تربط مستقبل الولايات المتحدة بجزء هامشي من الاقتصاد العالمي، متجاهلة هذه الحقيقة.
السياسة الخارجية
وهنا تبرز ملاحظة أساسية، وهي أن وثيقة استراتيجية الأمن القومي نفسها تعاني من غياب التماسك، حيث تجمع بين أقسام تبدو وكأنها كتبت من قبل أطراف مختلفة، وغالباً ما تتناقض مع بعضها بعضاً، وتعتمد على عبارات عامة ومبتذلة.
كما أن السياسة الخارجية للرئيس ترامب «براغماتية من دون أن تكون براغماتية، وواقعية من دون أن تكون واقعية، ومبدئية من دون أن تكون مثالية، وقوية من دون أن تكون متشددة، ومنضبطة من دون أن تكون مسالمة»، وهي أوصاف تظل غامضة وغير واضحة المعنى، ورغم وجود بعض الإشارات التي توحي باستعداد محدود للقيام بدور دولي، فإن الاتجاه العام يظل ميالاً إلى الانكفاء.
وفي جوهرها، لا تختلف هذه الرؤية كثيراً عما كان يطرحه أنصار الانعزال في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، حين دعوا إلى الابتعاد عن الشؤون الأوروبية وتشديد القيود على الهجرة، ففي تلك الفترة، كما في الوقت الراهن، ترافقت الشكوك حول الانخراط الأميركي في العالم مع تصاعد المشاعر المعادية للهجرة.
وكان دعاة القومية آنذاك يخشون من عدم قدرة المهاجرين على الاندماج في المجتمع الأميركي، ففرضوا قيوداً صارمة على دخولهم، وقد شملت هذه الفئات الأيرلنديين والإيطاليين وسكان جنوب أوروبا واليهود، وهي جماعات أثبت التاريخ لاحقاً أنها اندمجت بشكل ناجح في المجتمع الأميركي.
واليوم، تبدو استراتيجية الأمن القومي في عهد ترامب مهووسة بقضية الهجرة، حيث تصنفها كتهديد مباشر للأمن القومي، وتكاد تزعم أن أخطر ما يواجه الولايات المتحدة والعالم الغربي هو الهجرة، سواء إلى داخل أميركا أو إلى أوروبا، محذرة من أنها قد تؤدي إلى «محو الحضارة».
النظام العالمي
ويشبه الوضع الدولي الراهن، إلى حد بعيد، ما كان عليه في عشرينات القرن الماضي، فالولايات المتحدة تظل الدولة الوحيدة القادرة على الحفاظ على استقرار النظام العالمي، ومن ثم فإن انسحابها من الساحة الدولية، سواء من أدوارها الإيجابية أو حتى من إدارة الأزمات، يترك فراغات خطيرة قد تملؤها قوى أخرى أقل قدرة أو أقل التزاماً بالمسؤولية الدولية من واشنطن.
وقبل نحو قرن من الزمن، اختارت الولايات المتحدة التراجع عن تحمل مسؤولياتها العالمية، فانهار النظام الدولي، وكان ذلك من بين العوامل التي قادت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وما صاحبها من دمار هائل وخسائر بشرية جسيمة.
ورغم وجود قوى دولية أخرى تسهم اليوم في قدر من الاستقرار، فإن انكفاء الولايات المتحدة وتركيزها المفرط على شؤونها الداخلية قد يترك العالم بلا قيادة واضحة، ويدفعه نحو مزيد من الاضطراب والفوضى، ولعل الأمل يبقى في ألا يضطر العالم إلى إعادة تعلم هذا الدرس القاسي مرة أخرى. فريد زكريا* *كاتب عمود بالشؤون الخارجية في «واشنطن بوست» عن «واشنطن بوست»
• انسحاب أميركا من الساحة الدولية يترك فراغات خطيرة، قد تملؤها قوى أخرى أقل قدرة أو التزاماً بالمسؤولية.
• الاستراتيجية الجديدة تستند إلى «عقيدة مونرو»، التي تقوم على مبدأ رفض الاستعمار ومنع التدخل في شؤون الدول الأخرى.