تراجع الإقبال الدولي على الجامعات الأميركية يثير مخاوف اقتصادية وتعليمية
يعيش طلاب الثانوية حول العالم هذه الفترة مرحلة حاسمة من حياتهم، حيث يستعدون لاتخاذ واحد من أهم القرارات المصيرية، وهو الانضمام إلى الجامعة. وعلى مدى عقود طويلة، ظل حلم الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة يجذب الطلبة الدوليين الباحثين عن التميز والفرص الواعدة.
وكانت الولايات المتحدة، وعلى مدار سنوات عدة، الوجهة الأكثر تفضيلاً للطلاب الأجانب، نظراً لما تتمتع به من بيئة تعليمية غنية بالابتكار والطموح، إضافة إلى كونها مركزاً عالمياً للمواهب. فقد استقطبت الجامعات الأميركية، بدءاً من كليات المجتمع ووصولاً إلى جامعات النخبة «آيفي ليغ»، نحو 1.1 مليون طالب دولي خلال العام الماضي فقط.
ولم يأتِ هؤلاء الطلاب فقط للحصول على شهادات ثم العودة إلى أوطانهم، بل جاؤوا للمشاركة في مجتمع علمي يسهم في تشكيل مسار الابتكار العالمي، بدءاً من شركات وادي السيليكون الناشئة وحتى المختبرات المتقدمة لأبحاث السرطان.
لكن هذه الجاذبية بدأت تتراجع أخيراً، نتيجة التغيرات الصعبة التي طرأت على سياسات السفر والدراسة في الولايات المتحدة.
تراجع غير مسبوق
وبحسب تحليل نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، فقد انخفض عدد الطلاب الدوليين الوافدين إلى الولايات المتحدة في أغسطس الماضي بنسبة 20% مقارنة بالعام السابق، وهو تراجع غير مسبوق باستثناء فترة جائحة «كورونا»، التي توقف فيها السفر والدراسة والكثير من الأنشطة.
وبدأت المؤسسات التعليمية تشعر بوقع هذا الانخفاض، حيث سجلت جامعة «نياغرا» في نيويورك تراجعاً بنسبة 45% في عدد الطلاب الدوليين المسجلين هذا الفصل، فيما شهدت جامعة «دي بول» في شيكاغو انخفاضاً حاداً بلغ 62% في أعداد طلاب الدراسات العليا الدوليين الجدد.
وحتى الجامعات العامة المرموقة، مثل جامعة «ويسكونسن - ماديسون»، سجّلت انخفاضاً بأكثر من 35% في أعداد طلابها الجدد من الخارج.
سياسات ترامب
ولم يكن هذا التراجع وليد الصدفة أو نتيجة عوامل أكاديمية أو ديموغرافية، بل يرتبط وبشكل مباشر بالسياسات التي تبنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب.
فقد اتخذت الإدارة سلسلة إجراءات جعلت الدراسة في أميركا أكثر تعقيداً، من بينها عمليات «تدقيق وسائل التواصل الاجتماعي»، إضافة إلى إلغاء تأشيرات بعض الطلاب بسبب منشورات سياسية مثيرة للجدل.
كما اقترحت الإدارة إلغاء نظام «مدة الإقامة» الذي سمح لسنوات طويلة ببقاء الطلاب في الولايات المتحدة طوال فترة دراستهم، دون الحاجة لتجديد متكرر للتأشيرات.
وزاد الأمر صعوبة فرض رسوم تصل إلى 100 ألف دولار على بعض طلبات تأشيرة «H-1B» التي يعتمد عليها الكثير من الخريجين الدوليين للبقاء والعمل بعد التخرج.
ومع هذه السياسات، أصبح من الطبيعي أن يعيد الطلاب الدوليون التفكير في «الحلم الأميركي»، وأن تتراجع أعداد الطلبة الوافدين.
دعامة أساسية
وقد شكل الطلاب الدوليون العام الماضي، دعامة أساسية للاقتصاد الأميركي، حيث أسهموا بنحو 43 مليار دولار، ودعموا ما يقرب من 375 ألف وظيفة في مختلف القطاعات.
كما أسهمت الرسوم الدراسية التي يدفعونها في بقاء العديد من الجامعات، لاسيما تلك الموجودة في المدن الصغيرة التي تعتمد بشكل كبير على إنفاق الطلاب. وحذر «اتحاد المعلمين الدوليين» من أنه إذا استمر هذا التراجع، فقد تخسر الولايات المتحدة ما يصل إلى سبعة مليارات دولار من الإيرادات، و60 ألف وظيفة مرتبطة بالتعليم الدولي خلال هذا العام وحده.
كما أظهرت ورقة بحثية حديثة صادرة عن الأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة والطب، أن القيود الحالية والمقترحة على الهجرة يمكن أن تؤثر سلباً على القوى العاملة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وعلى النمو الاقتصادي في البلاد، متوقعة أن تراوح خسائر الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بين 240 و481 مليار دولار سنوياً خلال العقد المقبل، نتيجة تقليص عدد الطلاب الدوليين.
خلق فرص عمل
وتؤكد الدراسات أيضاً أن الطلاب الدوليين لا يزاحمون المواطنين الأميركيين على الوظائف، بل يسهمون في خلق فرص عمل جديدة بعد تخرجهم. فقد كشفت دراسة للمؤسسة الوطنية للسياسة الأميركية أن كل موظف يحمل تأشيرة «H-1B» في مجال التكنولوجيا يوفر بمعدل خمس وظائف جديدة للأميركيين.
وليس هذا غريباً، فالمهاجرون كانوا دائماً ركيزة الابتكار في الولايات المتحدة، حيث إن 40% من الأميركيين الحاصلين على جائزة «نوبل» في الفيزياء والكيمياء والطب منذ عام 2000 من المهاجرين، والكثير منهم بدأ مسيرته كطالب دولي.
كما أن نحو نصف الشركات الأميركية الناشئة التي تتجاوز قيمتها مليار دولار أسسها مهاجرون أو شاركوا في تأسيسها.
وبمعنى آخر، فإن وضع العراقيل أمام الطلاب الدوليين الراغبين في العمل داخل الولايات المتحدة لا يحمي المصالح الأميركية، بل يعرقل النمو والابتكار، ويزيد من الأعباء الاقتصادية.
منافسة عالمية
في المقابل، بدأت دول أخرى تتبنى سياسات أكثر انفتاحاً لجذب المواهب العالمية، فكندا وأستراليا والمملكة المتحدة عمدت إلى توسيع حقوق العمل بعد التخرج، وتسهيل إجراءات التأشيرة، بينما تقدم ألمانيا وإيرلندا وهولندا حالياً برامج تعليمية باللغة الإنجليزية، ومسارات واضحة للحصول على الإقامة، ما يجعل المنافسة العالمية على الطلاب الدوليين أكثر شدة، في وقت تتراجع فيه الولايات المتحدة عن موقعها الريادي.
ومع ذلك، فإن هذا التراجع ليس قدراً محتوماً، حيث يستطيع الكونغرس والإدارة الأميركية الحالية، والمحاكم اتخاذ خطوات فورية لعكس المسار، فوزارة الخارجية يمكنها إعطاء الأولوية لمعالجة تأشيرات الطلاب، وتسهيل صدورها بسرعة.
كما يمكن للإدارة رفع القيود عن السفر من 19 دولة، مع الحفاظ على مستوى عالٍ من التدقيق الأمني.
ويمكن للمشرعين إعادة تفعيل نظام «مدة الإقامة» الذي يوفر الاستقرار للطلاب والجامعات، فيما تمتلك المحاكم سلطة إلغاء الرسوم الباهظة المفروضة على تأشيرات «H-1B».
ولا يقل دور الجامعات والشركات أهمية، فقد سبق أن نجح ضغط قطاع التكنولوجيا في إفشال بعض سياسات ترامب المثيرة للجدل، ويمكن لتحالف مشابه بين الجامعات وشركات التكنولوجيا وغرف التجارة أن يسهم في تغيير النظرة إلى الطلاب الدوليين بوصفهم قوة اقتصادية وعلمية، وليسوا تهديداً.
ستيفن ييل-لوهر*
*أستاذ متقاعد في ممارسات الهجرة في كلية الحقوق بجامعة كورنيل الأميركية.
عن «ذا هيل»
الوجهة الأولى
لقد كانت الولايات المتحدة دائماً موطناً يرحّب بالمواهب القادمة من مختلف أنحاء العالم. وإذا فقدت هذه السمعة، فسيتراجع اقتصادها وابتكارها بالضرورة. فكل خريف، يقيّم ملايين الطلاب خياراتهم، ويرون انفتاح كندا، ووضوح بريطانيا، وجاذبية أستراليا، بينما يتزايد في الوقت ذاته إدراكهم للتحديات التي تفرضها السياسات الأميركية.
ويبقى السؤال المطروح أمام صنّاع القرار في الولايات المتحدة: هل لاتزال البلاد ترغب في أن تبقى الوجهة الأولى للمواهب العالمية، أم ستكتفي بمشاهدة هذه المواهب تتجه نحو دول أخرى؟
فإذا استمرت السياسات الحالية على هذا النهج، فقد نجد أن أينشتاين القادم أو سيرجي برين القادم أو حتى إيلون ماسك القادم سيختارون تطوير مواهبهم في مكان آخر، خارج الولايات المتحدة الأميركية.
. الطلاب الدوليون أسهموا بـ 43 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي خلال العام الماضي.
. دراسة: الطلاب الدوليون لا يزاحمون الأميركيين على الوظائف، بل يسهمون في خلق فرص عمل جديدة.