صانع حرير سوري يحوّل منزله متحفاً بعدما طال انتظاره ديدان القز

بعدما طال انتظاره لديدان القز التي غيّبتها سنوات الحرب، وكان قد اعتاد تربيتها والعناية بها واستخراج الحرير منها، قرّر محمد سعود الاحتفاظ بورشته وتجهيزاتها وتحويلها متحفاً في وسط سورية، على أمل أن تنبض مجدداً بالحياة.

وقسّم محمد سعود (65 عاماً) منزله إلى جزأين، قسم مخصص لإقامته مع عائلته، بينما حوّل الآخر، وهو الأكبر، إلى متحف واسع، يختصر كل مراحل صناعة الحرير التي تُعرف بها بلدته دير ماما في ريف حماة (وسط).

في باحة المنزل الكبيرة، ترك سعود بعض شرانق الحرير التي تشبه البيوض الصغيرة داخل أوعية، وعجلة خشبية كبيرة تدور بشكل يدوي، يصنع من خلالها خيوط الحرير بعد تجميعها.

ويقول «لا يوجد في سورية إلا ثلاث عائلات تمتهن هذه الصنعة، واليوم أقاتلُ وحيداً في بلدتي من أجل إبقائها على قيد الحياة».

والتقت «فرانس برس» سعود قبل 10 سنوات، وتحدث حينها عن 48 عائلة في 16 قرية تعمل في تربية دودة القز. وبلغ إنتاج عائلته عام 2010 أكثر من 35 كيلوغراماً، قبل أن يتوقّف بشكل شبه كامل نهاية عام 2011 مع بدء النزاع في سورية. وقد أنتجت البلاد 3.1 أطنان من الحرير عام 2010.

واعتاد الرجل أن يعمل مع زوجته وأبنائه الثلاثة في زراعة شجر التوت الذي يعيش عليه دود القز، ثم إنتاج الشرانق لاستخراج خيوط الحرير منها، وحياكتها على مغزل خشبي قديم، لتخرج في النهاية قطع قماش أو ملابس مصنوعة من الحرير الطبيعي بشكل كامل.

ويضيف محمد، الذي يلقب بـ«شيخ كار» صناعة الحرير: «قرّرت أن أحوّل منزلي إلى متحف عندما أدركتُ أنه يضم جميع مراحل صناعة الحرير، حتى يغدو نقطة سياحية يزورها كل من يطلب الحرير ويحبّه».

ويجلسُ محمد خلف مغزل خشبي (النول)، وينسج بيديه أمام الكاميرا بعضاً من خيوط الحرير التي احتفظ بها، وتتزين الجدران حوله بأقمشة حرير من حياكته. وبمهارة عالية، يلفّ الخيط على يديه، ويحرّك أصابعه ورجليه على المغزل الخشبي بشكل متناسق، ويُكمل قطعة قماش بدأها قبل أشهر.

ميتة سريرياً

وتعتبرُ بلدة دير ماما واحدة من أشهر البلدات السورية التي كان معظم سكّانها قبل الحرب يعملون في مرحلة من مراحل صناعة الحرير، واشتهرت بزراعة شجر التوت على مساحات واسعة، وتحوّلت مقصداً لعشّاق الحرير الطبيعي. ورغم أنه فتح أبواب متحفه مجاناً، وعلّق لوحة كُتب عليها «أهلاً بكم في معرض الحرير»، لكنّ أحداً لم يطرق الباب طوال سنوات الحرب التي دمرت اقتصاد البلاد، وكانت المجموعات السياحية تشكل أبرز أسواق التصريف لمنتجات الحرير الطبيعي.

ويقلّب محمد، أو أبوعلي، كما يحلو لمعارفه مناداته، صوراً قديمة التقطها مع زوّار أجانب، ومقالات كتبت عنه. ويقول «كان اعتمادي الأساسي على السياح، فهم من يستطيعون تحمّل دفع ثمن الحرير (..). اليوم لم تبق لي إلا الذكريات».

وسط عشرات الأقمشة المكدسة فوق بعضها بعضاً، يشرح أنّ «الحرير من الكماليات قياساً بواقع الأزمة التي نعيشها، ويحول ارتفاع ثمنه دون الإقبال على شرائه».

ويوضح أنّ الحرفة «أشبه برجل مريض كنا نأمل أن يتماثل للشفاء، لكن جاءت الحرب وأطلقت رصاصة الرحمة علينا، قبل أن تطلقها على مهنتنا». ويقول بحسرة «أقاتلُ وحيداً من أجل إحياء هذه المهنة.. بعدما باتت ميتة سريرياً. نحتاج إلى يد السماء أن تمتد إلينا لتنقذ هذه المهنة».

أخشى أن أنسى

يعدّ البروكار الدمشقي الذي ينسج يدوياً من الحرير الطبيعي وخيوط الذهب من الأقمشة الذائعة الصيت في العالم، خصوصاً بعدما أهدى الرئيس السوري السابق، شكري القوتلي، قطعة منه عام 1947 لملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، يُروى في سورية أنها استخدمتها في صناعة ثوب زفافها.

ويؤكّد الباحث في التراث اللامادي ورئيس فرع هيئة تنفيذ المشاريع السياحية، مرهف رحيّم، أن «المشكلة ليست في الإنتاج، فهناك مئات القطع الجاهزة تنتظرُ زبائنها».

ويقول «المشكلة تتلخّص في عملية التصريف والتسويق، فثياب الحرير ليست أولوية اليوم بالنسبة إلى السوريين»، مضيفاً «قبل الحرب، كان السياح يستهلكون الجزء الأكبر من الإنتاج، وكنا نصدّر كميات كبيرة إلى لبنان والخليج العربي».

في بلدة دير ماما، تقول أمل، زوجة محمد التي بدأت قبل أسابيع حياكة قطعة حرير حتى لا تنسى تقنية الحياكة، «أغزل لأتسلى، ولتبقى أصابعي طريّة، أخشى أن أنسى الحياكة مع مرور الوقت».

وتشير المرأة التي وضعت شالاً من الحرير الأبيض على كتفيها، بحزن، إلى كرم التوت الصامد قرب منزلها، موضحة «وحدنا نحن الذين لانزال نزرع التوت، لكننا هذه السنة أطعمنا ورقه للماعز».

يعدّ البروكار الدمشقي، الذي ينسج يدوياً من الحرير الطبيعي وخيوط الذهب، من الأقمشة الذائعة الصيت في العالم، خصوصاً بعدما أهدى الرئيس السوري السابق، شكري القوتلي، قطعة منه عام 1947 لملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، يُروى في سورية أنها استخدمتها في صناعة ثوب زفافها.

 

الأكثر مشاركة