بالصور.. «لاجئو تيغراي» يسعون للحصول على الرعاية الإنسانية وسط لا مبالاة من أحد

«يا إلهي».. همس الدكتور بالاه لنفسه حالما رأى شاحنتنا الـ«بيك أب» محمَّلةً بالأدوية والمواد وقد وصلت أخيراً لوجهتها. كان يوم السادس عشر من نوفمبر الماضي وقد وصلنا إلى قرية حمداييت، وهي قرية صغيرة المساحة ترابية الطرق، تقع عند رأس المثلث الحدودي بين السودان من جهة وإريتريا وإثيوبيا من جهة أخرى. أمامنا آلاف اللاجئين الذين فروا من منطقة تيغراي الإثيوبية، وقد انتشر الناس فوق التضاريس السودانية القاسية، ولا شيء فوقهم سوى السماء.

بين فينة وأخرى تندفع مجموعات كبيرة من مئات الأشخاص بشكل محموم في اتجاهٍ معيّن على أمل الحصول على الطعام، أو الماء، أو المأوى، أو القليل من التعاطف البشري. لقد كانت صورة قاتمة وملحة للحاجة الإنسانية. وبعد ستة أشهر، وبشكل يصعب تصديقه، لايزال اللاجئون في شرق السودان يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية، والعيش حياة كريمة، في مواجهة ما يرقى إلى استجابة غير كافية بشكل مُخزٍ لمحنتهم.

وكمنسق لمشروع «أطباء بلا حدود» في حمداييت، كانت مهمتي سهلة من الناحية النظرية، لكنها شاقة فعلياً: تقييم الاحتياجات الطبية والإنسانية الملحة للاجئين، وأهالي المناطق المعزولة من المجتمع السوداني الذي يستضيفهم، والاستجابة لتلك الاحتياجات. كان من المستحيل أن تعرف من أين تبدأ، فجميع اللاجئين كانوا بحاجة إلى المساعدة.

كانت مدينة جميلة

سألني أحد الشبان: «هل تعرف متى سنذهب إلى أم راكوبة؟»، يقصد المخيم الدائم الذي خصصته الحكومة السودانية للاجئين الواصلين حديثاً. أجبته بأني «لا أعرف يقيناً». قلت له ذلك بينما كنت ممسكاً بهاتفي أحاول أن أرسل رسالة «واتس أب» لرئيس البعثة والمنسق الطبي. ثم قلت له: «سمعت أن حميرة مدينة جميلة»، ثم أضفت بشكل لا شعوري تقريباً: «أو كانت مدينة جميلة».

لم تكد الكلمات تخرج من فمي حتى ندمت على التلفظ بها. تركت الهاتف يسقط بجانبي ورفعت نظري لأرى عينيه وقد دمعتا، فقلت له «أنا آسف حقاً.. لم أقصد»، بحثت عن طريقة لسحب ما قلته لكن دون جدوى. فأجاب: «نعم كانت جميلة، لكني لا أستطيع العودة الآن، لا أعرف متى سأتمكن من العودة.. هذا إن استطعت».

خلال الأيام والأسابيع التالية كان آخرون يفصِّلون الأسباب التي تحول دون إمكانية عودتهم إلى الديار. حكوا لي قصصاً مأساوية عن أناس تعرضوا للقتل، أو الاعتقال، أو التعدي، أو الضرب، أو الإصابة، وتُركوا ليموتوا في الشوارع والمستشفيات. قالوا إنه حتى الذين تمكنوا من تفادي أسوأ ما في النزاع كانوا لايزالون عرضة لمراسيم تمنعهم من التنقل بحريَّة، أو التحدث بلغتهم الأصلية.

بعد الوصول إلى السودان ساد نوع من الهدوء الهش والمتوتر في آنٍ معاً على اللاجئين في هذه الأيام الأولى. كان هناك شعور مستمر بالصدمة والخسارة واليأس حيال الانفصال عن الأسرة والمجتمع والوطن، ولكن كان هناك أيضاً امتنان عميق للمجتمع السوداني الذي فتح منازله وقلبه لجيرانه من تيغراي. «لا توجد عائلة سودانية واحدة لا تستضيف لاجئين في منزلها».. قال لي أحد قادة المجتمع المحلي عن حيه في حمداييت.

وبالنسبة لمنظمة «أطباء بلا حدود»، فقد أرسلت عمال رعاية صحية على طول نهر تيكيزي وإلى نقاط أخرى عبَر منها اللاجئون إلى السودان كي تتمكن من فحص صحة الجميع ووضعهم الغذائي. أرسلت جرارات لنقل الماء من النهر، وتعقيمه بالكلور، وتوزيعه في القرية، وبدأت في دعم مرفق صحي صغير في السوق الرئيسة، حيث يقدم طاقم المنظمة ووزارة الصحة السودانية الاستشارات العامة، وخدمات الرعاية الصحية الأخرى للاجئين والمجتمع المضيف.

حاجات إغاثية هائلة

ورغم كل ما تم تقديمه مازالت هناك احتياجات هائلة. يواصل اللاجئون الوصول إلى السودان من معبر حمداييت حتى لو بأعداد أقل من ذي قبل. وقد سُحبت الموارد باتجاه المخيمات الدائمة، ما ترك الناس في حمداييت من دون المواد الإغاثية اللازمة لتلبية احتياجاتهم، فهناك نقص إن لم يكن غياب لأشياء أساسية مثل فُرُش النوم والبطانيات والمأوى المستقل لكل أسرة، والطعام الملائم المعتاد لدى اللاجئين والمعلومات الأساسية التي تتيح للناس اتخاذ قرارات مستنيرة. وينطبق الأمر ذاته على الخدمات الخاصة والمناطق الآمنة لرعاية القاصرين غير المصحوبين، والمسنين والمعاقين والضعفاء. ويشعر العديد من اللاجئين بأن لا أحد يهتم بهم، على الرغم من مناشداتهم، وهو أمر يثير استياءهم.

ينبغي ألا يكون الأمر كذلك، لكن غياب الحس الطارئ والفعل في حمداييت مغلَّف للأسف باستراتيجية يشار إليها، وهي أقرب للمفارقة على أنها «النموذج التشغيلي سريع الاستجابة لحالات الطوارئ». وبتأييد من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وشركائها والسلطات السودانية، فإن هذا النموذج يصنف حمداييت كموقع لا ينبغي أن يتلقى فيه اللاجئون إغاثة شاملة، لأنهم من الناحية النظرية لا يمكثون أكثر من 72 ساعة قبل نقلهم إلى الداخل للعيش في مخيم دائم.

في الواقع فكرة أن اللاجئين المنهكين والمصابين بصدمات نفسية يمكن أن يعبروا إلى السودان، ويركبوا حافلة متهالكة بسرعة إلى مخيمات داخلية بعيدة؛ هي فكرة ممكنة كإمكانية الاستحمام في حوض من الماء المغلي. إنها مقاربة غير واقعية وقد ظهرت بالفعل مكامن الخلل فيها بوضوح خلال تدفقات اللاجئين السابقة، كما في بنغلاديش مثلاً في عام 2017، وفي منطقة ليبين في إثيوبيا عام 2011. وبدلاً من البقاء لمدة 24-72 ساعة، تظل الغالبية العظمى من اللاجئين في حمداييت لأسابيع أو شهور من دون تلقي جميع الخدمات الأساسية والإغاثة التي يحتاجونها. يتمكن الناس من الهروب من الحرب في تيغراي ليجدوا أمامهم سلسلة لا داعي لها من المعاناة، والإهمال المستمر عبر الحدود.

بعد خمسة أشهر ها أنا أترك السودان قلقاً أكثر من أي وقت مضى بشأن ما ينتظر اللاجئين الفارين من الحرب. قصصهم ودموعهم وإصرارهم، يتبادر كل ذلك إلى ذهني وأنا أدرك أن محنتهم في شرق السودان لن تدوم إلى الأبد. سوف ينتهي كفاحهم من أجل الاحتياجات الأساسية والحياة الكريمة ذات يوم. أما كيفية استجابتنا للتحديات بين ذلك الحين والآن، فهي ما سيحدد من نحن وكيف ننظر إلى أنفسنا كعاملين في المجال الإنساني، وكمجتمع دولي يهتم.. أو لا يهتم.

• بعد وصول اللاجئين إلى السودان ساد شعور مستمر بالصدمة والخسارة واليأس حيال الانفصال عن الأسرة والمجتمع والوطن.

جيسون ريزو - منسق مشاريع يعمل مع «أطباء بلا حدود» منذ عام 2017 وقد عمل في دول إفريقية عدة

الأكثر مشاركة