الأزمة في لبنان تراوح مكانهــا دون حل يلوح في الأفق

مرّ أكثر من شهر على بدء الانتفاضة في لبنان، وليس هناك ما يشير إلى أن النخبة الحاكمة في البلاد مستعدة لتقديم تنازلات ملموسة، والتخلي عن السلطة. ويبدو أن الطبقة السياسية متحدة في شراء الوقت للتغلب على عاصفة الغضب العام، بينما تسعى لتفريق المحتجين وتقسيمهم وتقويض قضيتهم. وفي هذه الأثناء، يبدو لبنان على وشك الانهيار الاقتصادي مع عدم وجود نهاية في الأفق لأزمة ثقة الجمهور بالنظام السياسي الحالي للبلاد.

ما كان مذهلاً في هذه التطورات غير المسبوقة، في لبنان، هو تجاوز الطائفية بين المحتجين؛ إذ يخرج المتظاهرون إلى الساحات، من الشمال إلى الجنوب، من خلال التنسيق عبر «واتس أب». إن هذا الوعي المدني الملحوظ يبشر بشعور جديد بالانتماء، فالمواطنون يشعرون بأن لديهم مصلحة في الابتعاد عن الحكم الطائفي.

البديل

خلال العقد الماضي، فقط، بدأ لبنان يشهد حركات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الجديدة، التي تسعى إلى توفير بديل للحركات التقليدية، لكن هناك طريقاً طويلاً يجب عبوره. ويحتاج لبنان إلى إصلاح دستوري واقتصادي كبير، وهي مهمة لا يمكن إنجازها بين عشية وضحاها.

علاوة على ذلك، فإن أعضاء النخبة الحاكمة، في لبنان، يتشبثون ببعضهم، ويستخدمون تكتيكات شبه موحدة لقمع الانتفاضة الشعبية. حتى الآن، كان هناك العديد من الخطب التي ألقاها الرئيس، ميشيل عون، ورئيس الوزراء، سعد الحريري (الذي استقال في 29 من أكتوبر، لكنه يرأس الآن حكومة انتقالية)، والأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله. وتباينت هذه الخطب من تبنّي مطالب المحتجين والاعتراف بها، إلى إدانة سلوكهم والتلميح إلى أنهم يتلقون الدعم الأجنبي. ويبدو أن كل خطاب يحفز المتظاهرين على العودة إلى الشوارع، بينما يبدو أن كل تحرك من جانب المتظاهرين يوحد الطبقة السياسية. إلى ذلك، تحذر الطبقة الحاكمة وفروعها من الانهيار الاقتصادي والتدهور الأمني إذا استمرت الاحتجاجات.

هناك عوامل حاسمة ستقرر كيف ستتكشف هذه الأزمة المستمرة: الأمن، والسياسة، والقضاء، والاقتصاد.

البيئة الأمنية

في حين أن الجيش اللبناني لايزال محايداً، بشكل عام، فإن قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية ساكنة، إلى حد كبير، خلال هذه الانتفاضة، ونادراً ما قامت قوات وعصابات شبه عسكرية، بالاعتداء على المتظاهرين. وفي هذا السياق، اعتقلت المخابرات العسكرية للجيش اللبناني، التي ترتبط تقليدياً بالرئيس، ويقودها الآن العميد، طوني منصور، أشخاصاً، واستخدمت القوة ضد المتظاهرين في الأسابيع الأخيرة. كما تم نشر لواء الحرس الجمهوري، الخاضع لسيطرة عون، لردع مسيرة المحتجين على الطريق المؤدي إلى القصر الرئاسي، في بعبدا. وفي 12 من نوفمبر، أطلق حارس شخصي لرئيس مكتب الاستخبارات العسكرية، العقيد نضال ضو، النار وقتل المتظاهر علاء أبوفاخر، بالقرب من الطريق السريع الذي يربط بيروت بالجنوب.

بعد أسبوعين فوضويين، دافع قائد الجيش اللبناني، اللواء جوزيف عون، عن موقف الجيش خلال الاحتجاجات، وحدد ما سيكون عليه الحال في الفترة المقبلة، قائلاً إن الجيش سيواصل تأمين سلامة المتظاهرين، لكنه سوف لن يقبل بإغلاق الطرق. وهذا الموقف من جانب الجيش يعني أن المأزق الحالي قد يتفاقم، إذ لن تتعرض الطبقة السياسية لضغوط كبيرة للتنازل، كما لن يتعرض المتظاهرون لأي ضغوط لمغادرة الساحات التي يتظاهرون فيها، بجميع أنحاء البلاد.

المعطيات السياسية

لقد تغيرت المعطيات السياسية بشكل كبير منذ بداية الانتفاضة في أكتوبر. وفي 2016، تعثرت الصفقة بين عون والحريري، تحت ضغط عام، لكنها لم تنهَر، وسمح الاتفاق بانتخاب الأول رئيساً، في 31 أكتوبر 2016، بعد أكثر من عامين من الفراغ الرئاسي، مقابل أن يصبح الحريري رئيساً للوزراء. ويرفض الحريري، اللوم الذي وجهه له وزير الخارجية، جبران باسيل، الذي يعتبر صانع الصفقات الحقيقي في معسكر الرئيس؛ بأن حكومته فشلت في مكافحة الفساد. وبدلاً من تلبية مطالب المحتجين، سعت النخبة إلى التوصل إلى اتفاق خلف أبواب مغلقة حول تشكيل حكومة جديدة.

الحريري، الذي استقال ولكن يبدو أنه حريص على العودة إلى السلطة، يضع شروطه الخاصة لقيادة حكومة تكنوقراط بحتة. ومع ذلك، لا يريد عون وحزب الله، أن يكون للحريري وحده اليد الطولى في حكومة التكنوقراط. إنهم يصرون على مزيج من التكنوقراط والسياسيين الذين لن تثير أسماؤهم ردود فعل سلبية من المحتجين. وفي هذا السياق، عُرض اسم الوزير السابق، محمد الصفدي، كرئيس وزراء محتمل، لكن بدا أن هذا كان في المقام الأول مناورة سياسية ندد بها المتظاهرون، ما أدى إلى انسحاب الصفدي. وكان من المفترض أن يكون الصفدي، المقرب من الحريري وباسيل، بمثابة حل وسط من شأنه إبقاء الصفقة الرئاسية لعام 2016 على قيد الحياة. في حين أن رحيل الحريري أعطى الانطباع بأنه استقال في تحدٍّ لحزب الله وباسيل، يبدو أن أطراف هذه الصفقة (عون والحريري وحزب الله) يواصلون التفاوض على إصدار جديد من صيغة تقاسم السلطة. وفي هذه الأثناء، سيفقد الحريري ما تبقى من رصيده السياسي في حال كان خارج السلطة؛ أو إذا لم يكن على الأقل صانع الحكومة الجديدة، بينما يحتاج عون وحزب الله إلى دعم المجتمع الدولي، حتى يتمكن الحريري من التغلب على الأزمة الاقتصادية الحالية وتجنب المزيد من التدهور. ومع ذلك، فإن التحدي يتمثل في أن التوصل إلى اتفاق بين الطبقة السياسية الحاكمة لم يعد كافياً، لأن كل ما يتفقون عليه يجب أن يلبي مطالب الثورة. وقد رفع انتخاب ملحم خلف رئيساً لنقابة المحامين في بيروت، معنويات المتظاهرين، الذين نجحوا في منع البرلمان من عقد جلسة لتمرير مشروعات قوانين مثيرة للجدل وراء الأبواب المغلقة، في 19 نوفمبر، قبل تشكيل حكومة تلبّي مطالب المحتجين.

العامل الاقتصادي

ربما يكون الموقف الأكثر إلحاحاً هو خطر الانهيار الاقتصادي الذي يلوح في الأفق مع وجود علامات متزايدة في كل من القطاعين العام والخاص. ولدى لبنان واحد من أعلى أعباء الديون في العالم، والمتوقع أن يصل إلى 155% من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول نهاية هذا العام. وبالإضافة إلى ذلك، تراجعت العملة المحلية للبلاد مقابل الدولار بنحو 20% في السوق السوداء، كما يفقد البنك المركزي اللبناني تدريجياً احتياطيه من العملات الأجنبية. وفي الواقع، يمكن للمواطنين الحصول على جزء من أموالهم فقط، من البنوك التجارية، بحيث لا يتعدى السحب 1000 دولار في الأسبوع.

جدير بالذكر أنه حتى خلال الحرب الأهلية، لم تغلق البنوك اللبنانية لفترة طويلة مثل ما حدث أخيراً. وتشعر هذه المؤسسات بالقلق إزاء الحركة الاحتجاجية، ومن ثم طلبت الحماية الأمنية من الحكومة المؤقتة. وفي الوقت نفسه، لايزال البنك المركزي اللبناني يستبعد أي تغيير في ربط سعر صرف الليرة بالدولار، الثابت منذ 22 عاماً، مؤكداً أن هذه الخطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار في الأزمة النقدية. مع ذلك، قد يكون تخفيض قيمة الليرة اللبنانية أمراً لا مفر منه، لأن السوق السوداء تفعل ذلك بالفعل، وسيؤثر هذا سلباً في مدخرات شريحة كبيرة من السكان، بما في ذلك صناديق التقاعد. وقد لا يكون هناك ما يكفي من الدولارات في السوق اللبنانية لمواكبة الطلب العام. وفي حال استمرت الأزمة السياسية وظلت البلاد في هذا الشلل، فقد يكون هناك انهيار اقتصادي كارثي، بما في ذلك عجز الدولة عن دفع الأجور. احتواء الموقف قد يحتاج إلى خطة إنقاذ من قبل المؤسسات النقدية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي. والحل المقترح من قبل المتظاهرين هو أن الأثرياء الذين استفادوا من النظام السياسي، يجب أن يدفعوا الدين الوطني، إما من خلال نظام ضريبي عادل، أو عن طريق إعادة الأموال المسروقة، لكن هذه الآلية غير موجودة، وقد لا يتحقق ذلك بالنظر إلى المتغيرات الحالية؛ لذلك، هناك أسئلة مفتوحة حول ما إذا كانت شبكة الأمان الاجتماعي يمكن أن تخفف من تأثير الانهيار الاقتصادي، وحول من سيدفع ثمن هذه التدابير الاجتماعية.

مع انهيار اقتصادي يلوح في الأفق وأزمة سياسية عميقة، يحتاج لبنان إلى تنفيذ عاجل لإصلاحات حقيقية وتحول أساسي في الحكم. هذان الشرطان المسبقان غير موجودين في الوقت الحالي. وفي هذه الأثناء، تواصل الطبقة السياسية الحاكمة عملها كالمعتاد، في حين لا يستطيع المتظاهرون تغيير نموذج السلطة؛ أو إجراء انتخابات برلمانية مبكرة. ولا يمكن تحقيق هذين الهدفين في المستقبل المنظور بالنظر إلى المواقف المعلنة للطبقة السياسية الحاكمة. في هذه الأثناء، تظل السياسة الأميركية في لبنان غامضة، تراوح من حجب المساعدات عن الجيش اللبناني إلى تركيز البيانات على حزب الله بدلاً من التركيز على السياق الأكبر للأزمة اللبنانية. وعادة ما يكون الخطاب العام لإدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، له نتائج عكسية بالنسبة للمتظاهرين، كما أظهرت الأحداث الأخيرة، بالنظر إلى المحاولات المستمرة في لبنان لتصوير الاحتجاجات على أنها مؤامرة تموّلها الولايات المتحدة.

ما يمكن أن تفعله واشنطن هو أن تحث السفارة الأميركية في لبنان جميع المسؤولين اللبنانيين على الاعتراف بخطورة الأزمة الحالية، وأن يستجيبوا لأصوات المحتجين؛ بينما يشجعون الجيش على البقاء محايداً.

حتى خلال الحرب الأهلية، لم تغلق البنوك اللبنانية لفترة طويلة مثل ما حدث أخيراً. وتشعر هذه المؤسسات بالقلق إزاء الحركة الاحتجاجية، ومن ثم طلبت الحماية الأمنية من الحكومة المؤقتة.

الحل المقترح من قبل المتظاهرين هو أن الأثرياء الذين استفادوا من النظام السياسي يجب أن يدفعوا الدين الوطني، إما من خلال نظام ضريبي عادل، أو عن طريق إعادة الأموال المسروقة، لكن هذه الآلية غير موجودة، وقد لا يتحقق ذلك بالنظر إلى المتغيرات الحالية.

1000

دولار هو الحد الأقصى للسحب الأسبوعي من البنوك التجارية في لبنان.

الأكثر مشاركة