إسرائيل تستغل عائدات الواردات لتدجين سلطة عباس

عندما أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أنه سيعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل من جانب واحد، في ديسمبر الماضي، وعد القادة الفلسطينيون بالانتقام منه بسرعة. فرفضوا لقاء المسؤولين الأميركيين، وهددوا بسحب اعترافهم بإسرائيل من قِبَل منظمة التحرير الفلسطينية، وإيقاف التنسيق الأمني مع الحكومة الإسرائيلية. ولكن بعد مرور أشهر من قرار ترامب، وحتى بعد النقل الفعلي للسفارة الأميركية، في شهر مايو الماضي، من تل أبيب إلى القدس، عجزت السلطة الفلسطينية عن تنفيذ أغلب تهديداتها.

وفي حقيقة الأمر، فإن السلطة الفلسطينية تراجعت عن الكثير من وعودها أخيراً. ففي السنوات التي تلت إنشاء هذه السلطة عام 1994، لبدء تشكيل الدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، تمكنت السلطة من إيجاد قدرات محدودة للحكم تحت سيطرة قوية من الجيش الإسرائيلي في معظم المراكز السكانية الفلسطينية. وأخيراً فشلت في وقف التعاونين الأمني والاقتصادي مع إسرائيل، وفي منع نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وهما مطلبان يحظيان بالشعبية بين الفلسطينيين وأحزابهم السياسية. ويبدو أن طموحات الشعب الفلسطيني وأولويات قادته السياسيين تتباعدان عن بعضهما بعضاً أكثر فأكثر.

ولتأكيد ما سبق، فإنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها اتهام السلطة بالفشل في التمسك بمصالح الشعب الفلسطيني. وافترض مراقبون، أمثال الناشط البريطاني جيرمي ويلدمان، والكاتب الفلسطيني علاء الترتير، أن ذلك يعود إلى اعتماد السلطة الفلسطينية على المساعدات الأميركية.

وفي الواقع فإن الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة تلقوا نحو 35 مليار دولار كمساعدات منذ عام 1993، وتعتبر السلطة الفلسطينية من أعلى الكيانات تلقياً للمساعدات استناداً إلى حجم المساعدة لكل شخص. وفي عام 2008، تمت تغطية نحو 50% من النفقات السنوية للسلطة الفلسطينية من المساعدات الدولية. واستخدم المانحون هذه الأموال لدفع السلطة إلى اتباع السياسة التي يرغبون فيها، مثل دمج الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي، حتى لو أن الشعب الفلسطيني كان يريد تخفيف هذه الروابط مع إسرائيل.

ومنذ عام 2008، أصبحت المساعدات تشكل جزءاً صغيراً من تمويل النفقات، حتى إنها بلغت 17% عام 2017، ومن المتوقع أن تواصل انخفاضها. ويرجع ذلك إلى الإصلاح الاقتصادي الذي قادته الدول المانحة. وبدأ تنفيذ هذه الإصلاحات رئيس حكومة السلطة السابق الخبير في صندوق النقد الدولي، سلام فياض، عام 2008، حيث عمل على إعادة هيكلة تمويلات السلطة، وفرض قيودا على الإنفاق تتماشى مع اقتراحات صندوق النقد والبنك الدوليين. حيث عملت المؤسستان الدوليتان على دفع السلطة نحو تخفيف الاعتماد على التمويل الخارجي، والاعتماد أكثر على الضرائب المحلية.

لكن ثمة معضلة هنا، فمن دون السيادة الحقيقية أو السيطرة على معابر الحدود، لن تتمكن السلطة الفلسطينية من تحصيل معظم عائدات الضرائب التي تصل إلى 70% من إجمالي العائدات. وعلى سبيل المثال فإن السلطة الفلسطينية يمكن أن تجمع ضرائب الشركات والعقارات، ولكنها تعجز عن تحصيل رسوم الجمارك على الواردات. وأصبحت هذه المشكلة مفهومة بعد تشكيل السلطة الفلسطينية.

ولهذا السبب بالذات تم تشكيل جهاز، كجزء من اتفاقات أوسلو، يُدعى آلية جمع عائدات الواردات. وكجزء من هذا النظام تقوم الحكومة الإسرائيلية بجمع مختلف الضرائب من التجار الفلسطينيين، أو العاملين في الاقتصاد الإسرائيلي، ومن ثم يودع لدى السلطة الفلسطينية كل شهر، ولكن بعد اقتطاع 3% منه رسوم إدارة. وتعتبر عائدات الواردات ضرورية جداً بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني الصغير، الذي بلغ حجمه نحو 2.5 مليار دولار عام 2017، ويشكل 60% من إجمالي نفقات السلطة الفلسطينية. وفي عام 2008 بلغت عائدات الواردات 1.1مليار دولار، تمثل 31% من إجمالي نفقات السلطة الفلسطينية. وترجع هذه القفزة الكبيرة في الاعتماد على الضرائب المحلية إلى الإصلاحات التي تمت في مرحلة ما بعد 2008، التي سهلت للسلطة الفلسطينية تأمين عائدات الواردات عن طريق إصدار إجراءات جديدة تساعد السلطة على جمع المبالغ المستلمة من التجار الفلسطينيين. وفي الأيام الحالية يجري استخدام أغلب الأموال التي يتم جمعها من أجل تأمين رواتب الموظفين الحكوميين، حيث وصلت هذه الفاتورة إلى 2.1 مليار دولار عام 2017.

وعلى الرغم من أن عائدات الواردات تأتي من الفلسطينيين، وتعود إلى السلطة الفلسطينية، إلا أن إسرائيل استغلت سيطرتها على هذه الأموال لأهداف سياسية. وعندما قررت السلطة الفلسطينية الذهاب إلى محكمة الجزاء الدولية في روما عام 2015 على سبيل المثال، أوقفت الحكومة الإسرائيلية نقل عائدات الواردات لمدة أربعة أشهر، ونتيجة هذا الوضع تضطر السلطة الفلسطينية إلى تقليص رواتب موظفيها إلى 40%. ووافقت إسرائيل على إعادة عائدات الواردات للسلطة بعد ضغوط كبيرة من الدول المانحة، التي خشيت انهيار السلطة الفلسطينية.

وفي الواقع، فقد أوقفت إسرائيل نقل عائدات الواردات للسلطة الفلسطينية لفترة تراكمية تبلغ نحو أربع سنوات منذ عام 1997.

وتمثلت الحوادث الأبرز التي منعت فيها إسرائيل نقل عائدات الواردات إلى السلطة في الانتفاضة الثانية عام 2000، وفوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وفي رد إسرائيل الانتقامي على محاولة السلطة الفلسطينية الحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى، في الفترة بين عامَي 2011 و2012. وأسفر توقف نقل هذه الأموال إلى السلطة الفلسطينية عن حدوث أضرار اقتصادية كبيرة للفلسطينيين، وفي معظم الحالات كان ينتهي الأمر بتقوية التعاون بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بعد تدفق المال من إسرائيل من جديد.

وعلى سبيل المثال، عندما أوقفت إسرائيل نقل عائدات الواردات الفلسطينية عام 2014 بعد أن وقّع الفلسطينيون على اتفاق لتوحيد الضفة الغربية وقطاع غزة، وصف عباس التنسيق الأمني مع إسرائيل بأنه مقدس. وواصل صندوق النقد الدولي كيل المديح والإطراء للسلطة الفلسطينية، نتيجة استمرار تعاونها الاقتصادي والأمني مع إسرائيل. وبعد كل هذه الحالات من وقف عائدات الواردات، ومن ثم الإفراج عنها، تعلمت السلطة الفلسطينية كيف تشعر بالقلق على أمن إسرائيل أكثر من اهتمامها بالرأي العام الداخلي لديها. وعلى سبيل المثال، كان رد الرئيس، محمود عباس، على نقل إدارة ترامب السفارة من تل أبيب إلى القدس، هو الدعوة إلى محادثات سلام جديدة متعددة الأطراف مع إسرائيل ولم يحظ بدعم شعبي كبير على تلك الدعوة. وجاءت هذه الدعوة من عباس على الرغم من أن منظمة التحرير الفلسطينية التي يترأسها، حثته على إلغاء الاعتراف بإسرائيل، وإلغاء اتفاقات أوسلو، ووقف التعاون الأمني مع إسرائيل.

ضربة قوية

وبالمقابل، تعرضت صدقية السلطة الفلسطينية لضربة قوية في أوساط الفلسطينيين. واستناداً إلى استطلاعات رأي حيادية فإن 9% من الفلسطينيين الذين شاركوا فيها يثقون بحكومتهم، في حين أن 94% منهم قالوا إنهم يعتبرون السلطة الفلسطينية فاسدة مالياً وإدارياً على مختلف المستويات، في حين أن 64% منهم يرفضون سياسة السلطة الاقتصادية. وعند سؤالهم عن ردة فعل السلطة على قرار إدارة الرئيس ترامب نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، قال 72% منهم إنها أقل بكثير من التوقعات.

وأشارت استطلاعات الرأي إلى أن ثمة دعماً قوياً لوقف التنسيق الأمني بين السلطة والجيش الإسرائيلي كرد على قرار ترامب، وهو الأمر الذي لم توافق عليه السلطة على ما يبدو.

ومن الواضح أن السلطة عالقة في الفخ، إذ إن الرضوخ إلى ضغط الرأي العام ووقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وتبني سياسة خارجية حازمة، ممكن أن تدفع إسرائيل إلى وقف نقل عائدات الواردات، الأمر الذي سينعكس سلباً على السلطة الفلسطينية. ونتيجة عجزها عن الرد على كل الاستفزازات، بما فيها خطط ترامب لسلب ملايين اللاجئين الفلسطينيين من وضعيتهم كلاجئين، سينجم عن ذلك مزيد من تآكل شرعية السلطة الفلسطينية، وابتعاد قيادتهاعن بقية الشعب الفلسطيني.

أنس قطيط : باحث في الاقتصاد السياسي، وعمل في قضية فلسطين و الأمم المتحدة.

 - بعد تكرار حالات وقف

عائدات الواردات

ومن ثم الإفراج عنها،

تعلمت السلطة

الفلسطينية كيف

تشعر بالقلق على

أمن إسرائيل، أكثر

من اهتمامها بالرأي

العام الداخلي

لديها.

- بعد أن وقّع

الفلسطينيون على

اتفاق لتوحيد الضفة

الغربية وقطاع غزة،

وصف عباس التنسيق

الأمني مع إسرائيل

بأنه مقدس.

94 %

من الفلسطينيين

قالوا إنهم يعتبرون

السلطة الفلسطينية

فاسدة مالياً وإدارياً

على مختلف

المستويات.

 

الأكثر مشاركة