عملاء الكرملين يلاحقون معارضي بوتين في أزقة لندن

أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الأربعاء الماضي سلسلة عقوبات ضد روسيا، بينها طرد 23 دبلوماسياً، وتجميد العلاقات الثنائية، معتبرة موسكو مسؤولة عن تسميم الجاسوس الروسي السابق على أراضيها.

وردت وزارة الخارجية الروسية على القرارات البريطانية، منددة بما اعتبرته «استفزازاً وقحاً»، واتهمت لندن بأنها «اختارت طريق المواجهة، وإجراءاتنا للرد لن تتأخر».

وقالت ماي أمام البرلمان: «ليس هناك من نتيجة أخرى سوى أن الدولة الروسية مسؤولة عن محاولة اغتيال سيرغي سكريبال وابنته يوليا»، مضيفة أن هذا يشكل استخداماً غير مشروع للقوة من قبل الدولة الروسية ضد بريطانيا.

واعتبرت ماي أن الطريق التي اختارها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «مأساوية»، خصوصاً أنه لم يرد على طلبها بتقديم إيضاحات حول هذه المسألة.

عين الكرملين الثاقبة

وصف العديد من الروس البارزين في بريطانيا في مقابلات عدة، إدراكهم المتزايد بأنهم يعيشون تحت عين الكرملين الثاقبة. واشتكى قطب الهواتف النقالة الروسي يفغيني تشيشفاركين علناً الفساد الرسمي في بلده، وكان قد فر من موسكو إلى لندن عام 2009، وأصبح يمتلك الآن ثروة طائلة. وقال تشيشفاركين إنه أدرك أنه تحت الرقابة بعد فترة قصيرة من وصوله إلى بريطانيا، عندما شاهد مجموعة من ثلاثة رجال يقفون ساعات عدة على بعد نحو 100 متر من باب منزله، وبينما كان ينظر إليهم خلسة اكتشف أنهم يمضون الوقت عن طريق أكل بزر عباد الشمس، وهي عادة منتشرة في الريف الروسي. وقال تشيشفاركين إنه شعر بالأمان في لندن أكثر من موسكو، خصوصاً بعد اغتيال المعارض الروسي البارز بوريس نيمتسوف عام 2015. وأضاف أن رجال الأمن الروس يتصرفون بتعقل في بريطانيا، لكنهم يستخدمون السلاح في موسكو.

ولكن هناك شخصيات معارضة أخرى يقولون إنهم يعيشون على أعصابهم دائماً في لندن. ويعتبر السيد سكريبال ثاني عميل روسي سابق يتم قتله في بريطانيا بعد مقتل ألكساندر ليتفنكو عام 2006، الذي لم تتخذ الحكومة البريطانية الإجراءات المناسبة إزاءه، كما أن الرجلين المتهمين بقتله يسرحان ويمرحان في روسيا.

ويقول المستثمر الأميركي الأصل الثري بيل برودر، الذي قاد حملات دولية لفرض عقوبات على الرئيس بوتين والمقربين منه، بسبب الفساد وانتهاك حقوق الإنسان، إن مقتل سكريبال بالسم يعني أن أشخاصاً مثله يواجهون خطراً كبيراً. وأضاف: «الحكومة البريطانية شكلت وضعاً خطيراً لأنها لم تعاقب روسيا على مقتل ليتيفنكو». وأضاف براودر الذي عاش في لندن لنحو ثلاثة عقود ويحمل الجنسية البريطانية»، إذا لم يكن هناك ردة فعل بريطانية على مقال سكريبال، فثمة احتمال كبير أن يكون دوري التالي في القتل.

ولسنوات عدة ظل بوريس بيرزوفسكي مركز المعارضة ضد بوتين في لندن. وهو ملياردير اختلف بشدة مع بوتين، ونال اللجوء السياسي عام 2003. ويقول اللورد تيموثي بيل الذي كان صديقاً مقرباً من بيرزوفسكي، إنه غالباً ما كان يجلس في أمكنة عامة مع صديقه الروسي، فيشير له هذا الأخير إلى عملاء يتعقبونه باستمرار. وأضاف «لم يكونوا جالسين فحسب، لقد كانوا يحدقون به، إنه أمر مزعج، لكن المرء يعتاد عليه بعد فترة طويلة».

ووظف بيرزوفسكي خدمات أمنية لحمايته بمبالغ باهظة، منهم شخصيات كانت تعمل في جيوش دول كبيرة، لكنه بات غير قادر على تحمل هذه النفقات بالنظر إلى أن ثروته أخذت بالتناقص، ولم يكن معه سوى حارس واحد عام 2013 عندما وجد ميتاً في حمام منزله. وقال بيل «أعتقد أنه لم يكن من المجدي دفع كل تلك الأموال مقابل الحماية، اذ إنها لم تنفعه في نهاية المطاف». وبعد التحقيق في سبب الوفاة قال الطبيب الشرعي إنه من المستحيل معرفة ما إذا كان بيرزوفسكي قد قتل نفسه أو أنه قتل. ويتذكر تشيشافاركين، وهو صديق آخر لبيرزوفسكي، أن هذا الأخير كان يتعامل مع تفاصيل حراسته بتشدد غير معقول.

• معارضون بارزون يقولون إنهم يعيشون على أعصابهم طوال الوقت في لندن.

• وصف العديد من الروس البارزين في بريطانيا في مقابلات عدة، إدراكهم المتزايد بأنهم يعيشون تحت عين الكرملين الثاقبة.

وكانت ماي تتحدث بعد 10 أيام على تسميم العميل السابق سيرغي سكريبال (66 عاماً) وابنته يوليا (33 عاماً) بغاز أعصاب عسكري من صنع روسي في سالسبوري بجنوب غرب إنجلترا.

وقالت ماي «كان من المنصف منح روسيا فرصة تقديم تفسير، لكن رد فعلها ينطوي على استخفاف تام بهذه الأحداث الفادحة»، مشددة على أنهم لم يقدموا أي تفسير موثوق به.

وأضافت ماي «بدلاً من أن يقوموا بذلك، تعاملوا مع استخدام غاز الأعصاب العسكري في أوروبا بسخرية وازدراء وتحدٍّ».

ورداً على ذلك أعلنت ماي عن سلسلة عقوبات ضد روسيا بدءاً بطرد 23 دبلوماسياً روسياً تعتبرهم بريطانيا «عملاء استخبارات غير معلنين». وأوضحت ماي أن «أمامهم مهلة أسبوعاً للرحيل». وكان لدى روسيا ما يصل إلى 59 دبلوماسياً معتمدين في بريطانيا.

أشهر من الملاحقة

عام 2014 هرب المعارض الروسي فلاديمير أشوركوف من موسكو إلى لندن، حيث تنفس الصعداء لدى وصوله إلى هناك، ولكن بعد أشهر من ملاحقته من قبل عملاء المخابرات الروسية توجت باقتحام متلفز لشقته، تخلى في نهاية المطاف عن حارسه، واختفى في شوارع مدينة كنغستون الأنيقة والمتعددة اللغات، ومضى نحو ستة أشهر قبل أن يدرك أنه لايزال يخضع للتعقب.

وعاد أحد أصدقاء أشوركوف القدامى من رحلة إلى روسيا وهو يحمل له أخباراً مزعجة، إذ إن المسؤولين الأمنيين في موسكو طرحوا عليه أسئلة تفصيلية عن الأحاديث الخاصة التي أجراها معه في أحد مقاهي لندن. وخلال اعتياده على الحياة في لندن تعلم أشوركوف أن يبحث عن العملاء الروس بصورة لا إرادية، فهم يتميزون ببذلاتهم السوداء ويجلسون فرادى عند تجمعات المهاجرين من بلادهم، وفي حفلات التعارف. ويقول أشوركوف: «لا أستطيع فعل الكثير إزاء ذلك، وحتى بعد أن ينجو المرء من موسكو إلى لندن، فإنهم يواصلون مراقبته، إذ إن لهم أذرعاً طويلة».

وتنشر روسيا الآن عدداً كبيراً من المخبرين في لندن، يفوق ما كانت عليه الحال في ذروة الحرب الباردة، كما قال مسؤولو مخابرات بريطانيون سابقون، وهم يقومون بمختلف المهام بما فيها إقامة علاقات مع السياسيين البريطانيين، ولكن المهمة الأكثر أهمية هي مراقبة المئات من الشخصيات الروسية المهمة، الذين يؤيد بعضهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويعارضه آخرون، حيث يعمل بعضهم في سوق العقارات والنظام المصرفي. ولكن محاولة تسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال وابنته، قد فرضت كثيراً من الضغوط على الحكومة البريطانية، لوضع حد لنشاطات هؤلاء الروس.

تعقب حركة العملاء

وكانت السلطات البريطانية قد كرست مصادر عدة لتعقب حركة عملاء الاتحاد السوفييتي في لندن، ولكن خلال السنوات الأخيرة باتت تهديدات الإرهابيين هي الأولوية الأهم، في حين أن جهاز الأمن البريطاني الداخلي المعروف (ام آي 5) لا يملك الموارد الكافية لمراقبة العمليات الروسية المتوسعة كثيراً كما قال جون بايليس، الذي تقاعد من قيادات الاتصالات الحكومية، وهي الجهاز الذي يعنى بالاستخبارات الإلكترونية عام 2010، وهو يلقي محاضرات عن التهديدات الأمنية حالياً. وقال بايليس «بات من المسلّم به أن لندن تحوي عدداً من المخبرين أكثر مما كانت عليه الحال خلال الحرب الباردة، ولكنهم الآن يتمتعون بحركة أكبر، وليس لدينا من الرجال ما يكفي لمراقبة كل منهم أينما ذهب».

وخلال السنوات العشر الماضية منحت بريطانيا اللجوء السياسي لعدد كبير من منتقدي بوتين الذين اختلطوا بسلاسة مع الروس الموجودين في المدينة، الذين وصفهم أحد مسؤولي المخابرات البريطانيين السابقين، رفض الكشف عن اسمه، بالقول «الكثير منهم أصدقاء بوتين، ومنهم أعداؤه، ومنهم حلفاؤه». وأضاف مستخدماً المصطلح البريطاني عن المدارس الخاصة: «بالطبع نصفهم يرسلون أبناءهم الى المدارس البريطانية العامة».

الأكثر مشاركة