فوز ترامب يطرح أسئلة ملحّة بشأن علاقة دفتَي المحيط الأطلسي
هناك الكثير من الدروس التي قد تستفيد منها أوروبا من فوز الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب. لكن بالنسبة للأوروبيين الذين يؤمنون بـ«الاستثنائية» الأميركية، قد يكون هناك القليل ليتعلموه من ذلك، فعلى الرغم من أن الانتخابات التمهيدية الأميركية، التي تشبه السيرك، والمنافسات الرئاسية، التي تحاكي حلبات المصارعين القدامى، وجدت صدى ضئيلاً في أوروبا، إلا أن ترامب، يبدو بالتأكيد، في كل ما أحرزه من مجد، ظاهرة أميركية فريدة من نوعها. وعلاوة على ذلك، يبدو المجمع الانتخابي مؤسسة غريبة من نوعها، حيث فازت المرشحة الرئاسية الخاسرة، هيلاري كلينتون، في التصويت الشعبي، بعد كل شيء، لكنها خسرت المنافسة.
| صدمة الانتخابات الأميركية كان لها وقع عظيم لمعظم السياسيين الأوروبيين. إذا اتبع ترامب هواه ليجعل من الصعب التنبؤ بالآثار الجيوسياسية لرئاسته، فإن ذلك سيكيل ضربة قاسية لثقة أوروبا بنفسها. |
وبالنسبة لمعظم السياسيين الأوروبيين فإن صدمة الانتخابات الأميركية كان لها وقع عظيم عليهم، وذلك لأوجه التشابه الواضح بين الديمقراطيات الأوروبية والديمقراطية الأميركية. حيث دبّج الكثير من القادة القلقين رسائل تهنئتهم لترامب بعبارات تذكره بالقيم الأطلسية، التي يعتقد كثير منهم أنها معرضة للخطر بسبب انتصاره. وفي الوقت نفسه بدأت نسخ أوروبية صغيرة من ترامب، بدءاً من فرنسا وإيطاليا وهنغاريا، تستفيد من دروسها الخاصة بفوز ترامب، وطفقوا يدبّجون خطابات المديح والثناء على الرئيس المنتخب، التي لا علاقة لأميركا بها إلا قليلاً، لكنها تتعلق بكل مشروعات الرئيس المقبل السياسية، وما ستحدثه من تغيير جذري. ويتساءلون: إذا حدثت هذه التغييرات هناك فلماذا لا يمكن أن تحدث هنا؟ ويعتقدون أن «تلك المؤسسات المعزولة والمهلهلة قد تعرضت للعقاب من قبل الناخبين خطوة بخطوة»، كما أكد العضو بحزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا، هاينز كريستيان شتراخه، على صفحته في الـ«فيس بوك»، في معرض تحيته لترامب.
وظلت آذان أوروبا تطنّ لسنوات عديدة بدعوات الاستيقاظ، مثل عائلات تولستوي غير «السعيدة»، في روايته «آنا كارنينا»، ووضعت أزمة اليورو الدائن ضد المدين، ومزقت مفهوم التضامن، وبرهن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن هذا الأخير يمكن أن يتقلص، كما يمكنه أيضاً أن ينمو. وبعد العديد من الصدمات في السنوات الأخيرة استعد الكثير من الأوروبيين على الأقل لهذا النوع من الترتيب، حتى لو كانت رئاسة ترامب لا تضع في الواقع هذا النوع من الاحتمال، لكنها يمكن أن تترك آثارها العميقة على الاتحاد الأوروبي، في وقت من الأوقات.
صعود ترامب إلى البيت الأبيض ـ وهو ذلك السياسي المعجب بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهو الذي ألمح في أكثر من مناسبة إلى أن الأميركيين يمكن أن يتخلوا عن حلفائهم في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ـ يطرح أسئلة ملحّة بشأن أمن أوروبا. حيث إن ذلك من شأنه أن يضعف التزام الولايات المتحدة بأمن (الناتو)، ما يقوّض ضمان السلام الذي يساعد الاتحاد الأوروبي على مواصلة مشروعه الخاص بالتكامل. ولكن إذا اتبع ترامب هواه ليجعل من الصعب التنبؤ بالآثار الجيوسياسية لرئاسته، فإن ذلك سيكيل ضربة قاسية لثقة أوروبا بنفسها، ما يجعل انهيارها فورياً، لاسيما بعد سلسلة الأزمات التي عاشتها. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي يفقد بسرعة الثقة بقدرته على الدفاع عن المُثل الليبرالية التي ينكرها ترامب السائر نحو سدة السلطة. ويبدو أن المزاج الأوروبي توتر للحد الذي اعتبر الأوروبيون نجاحات طفيفة أحرزوها الآن وكأنها من عجائب السياسة: فقد أشاد رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، باتفاقية تجارة أبرمت أخيراً مع كندا، واعتبرها انتصاراً للديمقراطية الغربية، بعد محادثات مضنية في اللحظة الأخيرة حفظت الاتفاق من الموت على يد هذا البرلمان الإقليمي المضطرب في بلجيكا.
لكن إذا كان فوز ترامب يشكّل تهديداً للاتحاد الأوروبي، فإن هذا التهديد سيأتي عبر منابر السياسة الوطنية، حيث إن شتراخه وأمثاله سيقتدون بالتحدي الذي احرزه ترامب عند صناديق الاقتراع ومراكز الاستطلاع، والذي يشاركهم كرههم للنخب، وإخلاصهم لغوغائية «الأمة أولاً». وقد يجنون ثماراً انتخابية على الرغم من أنها قصيرة الأجل، إلا أن الاختبار المبكر ستظهر نتائجه مع إعادة انتخابات النمسا الرئاسية في الرابع من ديسمبر، عندما يتنافس مرشح حزب الحرية، نوربرت هوفر ضد مرشح مدعوم من الخضر.
لكن حتى خارج الحكومة يستطيع الشعبويون استقطاب سياسيين آخرين لأحزابهم، وذلك من خلال إجبار الوسطيين ليتبنوا الشعارات المتطرفة، حيث سيعزز انتصار ترامب الاتجاه نحو ما يمكن أن نسميه «الأوربة» في دول مثل فرنسا وهولندا، وكلتاهما ستنظمان انتخابات العام المقبل، ولكن من المحتمل أن تُظهر ألمانيا بقيادة المستشارة، أنغيلا ميركل، مزيداً من الرفض لهذا المفهوم. وهذا بدوره يمكن أن يمد الاتحاد الأوروبي بمزيد من القوة، حيث تصبح التنازلات ضرورية «لتزييت القطع المعقدة من الآلات الخاصة بـ28 قطعة». وكثيراً ما يشكو البيروقراطيين في بروكسل أنهم أصبحوا كباش فداء لإخفاقات الساسة الوطنيين، وعلى هؤلاء البيروقراطيين الاستعداد لأكثر من ذلك.
وفي الوقت الراهن، فإن فوز ترامب مجرد تعميق لالتزامات المؤيدين لوحدة أوروبا، والحفاظ على هذه الوحدة بأي ثمن. ومنذ استفتاء بريطانيا ظلت الحكومات الأخرى تعمل في مشروعات مثل حماية حدود الاتحاد والتعاون العسكري، وذلك لكي تظهر بأنها مازالت تستطيع تصريف الأمور. ويرى المتفائلون أن مثل هذه الجهود قد تعزز في الواقع المخاوف من الانسحاب من المظلة الأمنية الأميركية. وبالمثل، فإن فوز ترامب ينبغي أن يعزز عزم الأوروبيين على اتخاذ موقف متشدد في محادثات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حتى لا يصبح الشعبويون أكثر جرأة.
لكن سيكون هناك ضحايا أيضاً، أولهما بالتأكيد هي شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي، وهو عبارة عن مقترح اتفاق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يتخبط بالفعل في مواجهة المعارضة في أوروبا والخلافات بين الجانبين. ولا يبدو أن ترامب، الذي ينأى بنفسه عن هذا النوع من التجارة، سيهب لنجدة الاتفاق، فإذا مات الاتفاق، أو (على الأرجح) دخل مرحلة التجميد العميق، فإن آمال أوروبا في توجيه معايير التجارة العالمية ستواجه المصير نفسه. وتعهد ترامب أيضاً بالانسحاب من اتفاق المناخ، الذي تم الاتفاق عليه العام الماضي في باريس، وهو الذي اعتبره الاتحاد الأوروبي انتصاراً للدبلوماسية متعددة الأطراف، فإذا كانت الحال كذلك فإن التعاون الأطلسي في إعادة توطين اللاجئين السوريين سيصبح في مهب الرياح.
ومع ذلك، فإن الخوف الأعمق الذي يساور الكثير من الأوروبيين هو أن رحلتهم الطويلة نحو التكامل قد فترتْ همتها وأصبحت خائرة القوى. وفي حقيقة الأمر فإن الاتحاد الأوروبي ليس على وشك الانهيار، ولن يؤثر فيه خروج بريطانيا، إلا أن انتصار ترامب يبدو كقوة محتملة ضد المعايير الليبرالية التي يسعى النادي الأوروبي لتجسيدها، بدءاً من التجارة والهجرة إلى حقوق الإنسان، فإذا تحققت هذه الأمور في أوروبا فإن الاتحاد الأوروبي سيسير في نهاية المطاف نحو تشكيل هيئة مشتركة للمنافع المتبادلة بدلاً من كونه نادياً للدول التي تتشاطر الرأي والمصير المشترك.. لقد شعرت أنحاء القارة بالزلزال السياسي الأميركي هذا الأسبوع، لاسيما أن الصرح الأوروبي كان يترنح بالفعل.