غزة.. جريمة حرب إسرائيلية جـــديدة
من الناحية الإنسانية المجردة، وفي ظل استمرار الهجوم الإسرائيلي، براً وجواً وبحراً، على قطاع غزة، ينبغي أن يكون هناك إجماع دولي حازم على المطالبة بإجلاء الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة والمقعدين والمرضى إلى مكان آمن خارج القطاع، إلى حين توقف الهجوم، ومن الواضح أن هناك ثغرات في القانون الإنساني الدولي، وكذلك القانون الذي ينظم شؤون اللاجئين، إضافة إلى ثغرات في مدى حساسية حكومات الدول وقادتها من الناحية الأخلاقية تجاه ما تتعرض له غزة.
| إصرار على التدمير خلال عملية «الجرف الصامد» يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن يقول للعالم إنه ليس هناك أي ضغط خارجي على إسرائيل يمنعها من مواصلة عملياتها العسكرية للوصول إلى الأهداف المطلوبة، وهي تدمير قوة حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، ونزع سلاحها، ومنعها من السير في طريق المستقبل. كما أن نتنياهو ومساعديه يستندون في تبريرهم لاستمرار هذا العدوان إلى أنهم يريدون أن يضمنوا أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يهرع فيها الإسرائيليون إلى الملاجئ والمخابئ هرباً من الصواريخ التي تطلقها «حماس»، وهذا يعني استمرار الهجوم الإسرائيلي أطول مما نتوقع.
فلسطينيون يحملون أمتعتهم ويتجهون نحو بيتهم المهدّم في بيت حانون. رويترز تهجير ليس هناك شك في أن قطاع غزة المزدحم سكانياً بأكمله يعتبر ساحة حرب، ما يعني أنه ليس فيه مكان واحد ليكون ملجأ أو مخبأ لأي من أهله للاختباء من القصف والغارات، حتى تنتهي العملية العسكرية الحالية أو يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ويبذل عمال وموظفو وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) جهوداً متواصلة ومضنية لمساعدة آلاف الفلسطينيين الذين هجروا منازلهم في شمال القطاع، ولجأوا إلى المدارس التي تديرها الوكالة بحثاً عن الأمن والأمان، حيث تشتد حاجة هؤلاء إلى المساعدات والخدمات الإنسانية الأساسية.
فلسطيني يحمل جثة. رويترز |
ومن الواضح أن الهجوم الإسرائيلي المسمى «الجرف الصامد»، أنهى أسبوعه الثاني في محيط من آذان دول لا تسمع، وعالم لا يأبه ولا يرى ولا يسمع. وعرضت مصر مبادرة لوقف إطلاق النار في 15 يوليو الماضي، كان أهم عناصر فشلها هو الإخفاق في جذب حركة المقاومة الإسلامة (حماس) إلى الالتزام بها، وعرضها على وسائل الإعلام، قبل أن تحدد «حماس» موقفها الرسمي منها، وكل هذا سهّل ويسّر على إسرائيل الاستمرار في حملتها العسكرية على قطاع غزة، والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال وصفها بأنها إجراء دفاعي. وهناك من الإسرائيليين من يدعي أن هذا الهجوم على «حماس» هو رد فعل على تورطها في خطف وقتل ثلاثة مستوطنين، لكن رد الفعل هذا تحول إلى عقاب وحشي جماعي لسكان قطاع غزة.
وكتب الخبير الفلسطيني في القانون الدولي وشؤون حقوق الإنسان، راجي الصوراني، الذي يحظى باحترام دولي كبير، أن حجم وشراسة العملية الإسرائيلية هما تطبيق لما يوصف بـ«عقيدة غزة»، التي تعني الاعتماد المتعمد على قوة مفرطة وغير متناسبة ضد أهالي القطاع. وفي الأصل استمد الإسرائيليون مضمون فكرة «عقيدة غزة» من مضمون «عقيدة الضاحية»، التي تم تطبيقها ضد الضاحية الجنوبية لبيروت في الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006. ويعيش 1.8 مليون في قطاع غزة، منهم 75% من النساء والأطفال، ليس لديهم أي ملاجئ أو مخابئ تقيهم خطر القصف الجوي والمدفعي والصاروخي، وليس لديهم أي بديل للنجاة. وحتى مع افتراضنا أن كفة حسن الحظ هي الراجحة مع هذه الأسر في النجاة من الموت أو الجروح والإصابات النفسية، فإن كابوساً مستمراً 24 ساعة يظلل رؤوس هذه العائلات من أصوات الطائرات القاذفة المقاتلة، والطائرات من دون طيار، وطائرات الاستطلاع، وهدير المدفعية والدبابات والسفن والبوارج الإسرائيلية، التي ترابط على امتداد شاطئ قطاع غزة، كفيل بتوفير عرض مستمر من الرعب والخوف، وإلحاق أضرار نفسية وعقلية بالغة بهم، خصوصاً الأطفال.
وتحاول حركة «حماس» إقناع آلاف الأسر والعائلات بعدم الاستجابة للمنشورات التي تلقيها إسرائيل على الأحياء والضواحي المختلفة، تطلب فيها من هذه الأسر إخلاء بيوتها ومنازلها قبل دقائق من قصفها وتدميرها، وتعتبر ما تقوم به إسرائيل حرباً نفسية وخرقاً صارخاً للمادة 33 من اتفاقية «جنيف الرابعة»، التي تصف ما تقوم به إسرائيل بأنه جريمة حرب ضد الإنسانية.
وثمة أمر آخر يدل على النوايا العدوانية والإجرامية المبيتة من جانب إسرائيل تجاه الفلسطينيين من أبناء قطاع غزة، وهو رفضها السماح بعبور 800 فلسطيني ممن يحملون الجنسيات المختلفة، أو المسموح لهم بازدواج الجنسية، للسفر من مطار اللد (بن غوريون)، ومن بين هؤلاء 150 يحملون الجنسية الأميركية، وباستثناء هؤلاء الـ800، فإن المجال ليس متاحاً لأي فلسطيني لمغادرة قطاع غزة إلى أي مكان أو وجهة في العالم، ما يعني أن جميع سكان القطاع عرضة ليصبحوا مهجرين ومشردين داخل القطاع، وحياتهم معرضة للخطر، حتى تستكمل عملية «الجرف الصامد» تحقيق أهدافها الإسرائيلية القذرة.
وليست هذه هي المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي يلجأ فيها الفلسطينيون إلى المدارس، لاسيما مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) التابعة للامم المتحدة، فقد سبق لهم ذلك في الحرب الإسرائيلية على القطاع أواخر 2008 -2009 ثم في حرب 2012.
ومن السهل ملاحظة أن هناك فجوات بين ما ينص عليه القانون الإنساني الدولي بشأن تمكين المدنيين تحت الاحتلال من البحث عن ملاذ أو ملجأ آمن هرباً من القصف، والقيود الأخلاقية التي تلزم الدول بها نفسها في ما يتعلق بمدى وحدود العنف والقوة المستخدمة، كما أن هناك حاجة لمنع أي دولة أو جماعة من التهرب من أي جريمة حرب ارتكبتها، بعد توصيفها وتعريفها من جانب محكمة الجزاء الدولية.
وبالنسبة للموقف الحالي، فإن إسرائيل والأمم المتحدة وحكومات الدول المجاورة لقطاع غزة رفضت تحمل أي قدر من مسؤولياتها بشأن تأمين ملجأ أو ملاذ آمن للمدنيين في قطاع غزة، وفي العادة فإن سلامة حياة المدنيين، وحجم الإصابات، وعدد الضحايا منهم، تعتمد على غياب أو وجود الإرادة السياسية للأطراف المعنية بأزمة أو حرب.
* مقرر الأمم المتحدة السابق لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية