حين نؤسس صحة أب وأم الغد

حين نتحدث عن صحة الطفل، غالباً ما يتجه التركيز نحو التطعيمات، أو مؤشرات الوزن بين السمنة والنحافة، وهي جوانب مهمة بلا شك، لكنها لا تكفي وحدها لبناء إنسان متوازن جسدياً ونفسياً.

هناك عامل أساسي كثيراً ما نغفل عنه، رغم أثره العميق وطويل المدى، وهو التغذية السليمة في المراحل المبكرة من الحياة.

التغذية في الطفولة ليست مجرد تلبية لحاجة جسدية آنية، بل هي عملية تأسيسية تُسهم في بناء الجهاز العصبي، وتنظيم الهرمونات، ودعم الصحة النفسية، وتشكيل السلوك الاجتماعي للطفل. وتشير دراسات علمية متعددة إلى أن نوعية الغذاء في السنوات الأولى تؤثر على توازن الهرمونات المسؤولة عن النمو، وتنظيم الطاقة، والاستجابة للتوتر، بل وتمتد آثارها إلى الهرمونات الجنسية في مراحل لاحقة من العمر.

هذا الخلل الهرموني الصامت، الناتج عن عادات غذائية غير متوازنة أو الإفراط في الأغذية المصنعة والسكريات، قد ينعكس مستقبلاً في صورة تقلبات مزاجية، وضعف في التركيز، وارتفاع مستويات القلق، وصعوبات في ضبط الانفعال. وهي مظاهر كثيراً ما تُفسَّر اجتماعياً أو تربوياً فقط، بينما يكون للتغذية دور خفي في نشأتها واستمرارها.

وتزداد أهمية التغذية مع انتقال الطفل من الاعتماد الكامل على الأم إلى مرحلة تناول الطعام، ثم إلى الحضانات والمدارس، حيث تصبح الوجبات اليومية جزءاً من نمط حياته المتكرر.

ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في برامج التغذية المقدمة في الحضانات والمدارس، بحيث لا تقتصر على ضبط السعرات أو تقليل السكر، بل تضمن وجود العناصر الغذائية الداعمة للنمو الجسدي والعصبي والنفسي، مثل الحديد، وأوميغا 3، والزنك، وفيتامينات النمو الأساسية. فالاستثمار في التغذية المدرسية هو استثمار مباشر في صحة أب وأم الغد.

ولا يقل أهمية عن ذلك تعزيز الوعي الغذائي لدى جميع أفراد المنظومة: الأمهات، والآباء، والأطفال، وحتى الشباب، لأن بناء علاقة صحية مع الغذاء لا يتحقق بالمنع أو الرقابة فقط، بل بالفهم والمعرفة والقدوة.

إن الاهتمام بالتغذية المبكرة ليس قضية صحية فحسب، بل قضية أسرية ومجتمعية بامتياز، فالأطفال الذين ننشئهم اليوم على تغذية متوازنة وصحة مستقرة، هم أنفسهم من سيحملون غداً مسؤولية بناء أسر متماسكة، قادرة على العطاء والاستقرار.

وهكذا، تبدأ صحة الأسرة... من طبق صغير في سنوات الطفولة الأولى.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.

الأكثر مشاركة