5 دقائق

السُّنة والعقل

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

مع تكريم الله تعالى للعقل البشري عموماً، وجعله مناط التكليف، وتشريفه بخطاب الأمر والنهي، إلا أنه سبحانه جعله محدود الإدراك، متفاوت النِّسبة في الكمال والنقص، وقد كان أكملُ الناس عقلاً، وأعظمهم فهماً، وأوسعهم تصوراً عبده ورسوله ونبيه ومصطفاه سيدنا محمداً، عليه الصلاة والسلام، كما روى أبونعيم وغيره عن وهب بن مُنبِّه، قال قرأت أحداً وسبعين كتاباً، فوجدت في جميعها أن الله عز وجل لم يعط جميع الناس، من بدء الدنيا إلى انقضائها، من العقل في جنب عقل محمد، صلى الله عليه وسلم، إلا كحبة رملٍ من جميع رمال الدنيا. ويقول القاضي عياض، رحمه الله: «وأما وفور عقله، وذكاء لُبِّه، وقوة حواسه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مِرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سِيره، فضلاً عمَّا أفاضه من العلم، وقرره من الشرع دون تعلُّم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه؛ لم يمترِ في رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول بديهة».

- «نعم قد كان هناك فريقان من الناس أرادوا أن يُخضعوا الشرع لعقولهم فكان الضلال حليفهم».

فلذلك اختصه بالرسالة الخاتمة العالمية التي ارتضاها ديناً له، ولم يقبل دينا سواها، وجعل بيان هذا الدين موكولاً إليه، صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله وفعله وتقريره، فلا يمكن أن يكون شيءٌ مما أتى به، عليه الصلاة والسلام، مما لا يقبله عقل سوي، لأن الشريعة كلها خاطبت هذا العقل السَّوي، فكان يبينها لأصحابه، فلم يقف عقل أحد منهم عند تشريع حكم لكون عقله لم يقبله، مع أن خطابات التعقل كانت موجهة إليهم في المقام الأول، فإنهم عاصروا التنزيل والتشريع، وكان من مقتضيات عقولهم أن يسلموا لما جاءهم به تسليماً لا خِيرَة لهم فيه؛ لأنهم يعرفون أن ما أتى به هو وحيٌ من عند الله تعالى، وأن عقولهم محدودة الإدراك كمحدودية سمعهم وأبصارهم وسائر حواسهم، فالعقل لا يخترق الغيب، ولا يدرك ما وراء المحسوس، فآمنوا بالغيبيات التي حدثهم بها كأنهم يرونها رأي عين، وقبلوا التشريع المحض الذي لا يدركه العقل، لعلمهم أنه من لدن عزيز حكيم، فلم يناقش أحد: لِمَ كانت الصلوات متفاوتة في العدد وأوقات مختلفة؟ ولا لمَ كان الصيام في شهر محدد؟ ولا لمَ كان شهراً دون زيادة أو نقصان؟ ولا لمَ كان الحج في أيامٍ معدودات وبكيفية معينة؟ ولا لمَ كانت الحدود على أنماط مختلفة؟ ولا غير ذلك مما لا يدرك العقل معناه، بما يسمى «العبادات المحضة»، أي غير معقولة المعنى، كل ذلك وغيره كثير لم تتوقف عقولهم عنده، بل كانوا يقبلونه مسلِّمين، منشرحة صدورهم؛ لعلمهم أن عقولهم قاصرة عن فهم كل شيء، شعارهم ما بينه الله بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾، ولسان أحدهم ما قاله بعضهم:

وإذا العقلُ لم يعلل لشيءٍ فمن الشرع عِلَّة الأشياء

وقد كانوا يتواصون بطرح العقل عند نص الشرع، كما قال سيدنا علي، رضي الله عنه: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه»، وقال سهل بن حنيف، رضي الله عنه: «أيها الناس اتهموا أنفسكم، فإنا كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا...».

نعم قد كان هناك فريقان من الناس أرادوا أن يُخضعوا الشرع لعقولهم، فكان الضلال حليفهم:

الأول مشركو قريش الذين لم يقبلوا ما جاء به من الغيبيات كالبعث بعد الموت؛ لعدم استيعاب عقولهم أن يحيي العظام وهي رميم، فسفَّه القرآن عقولهم، وحكم عليهم بالضلال المبين.

والآخر بعض الفلاسفة الذين أرادوا أن يُخضعوا النصوص لأهوائهم، فاجتمعت كلمة العلماء على نسبتهم للزندقة، وهكذا ظلَّت السنة حاكمة على العقل؛ لأنها وحي يوحى، لا أن يكون العقل حاكماً، لعجزه عن إدراك كنه الشريعة وحقيقتها، وصدق الله إذ يقول: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي».

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر