5 دقائق

الهجرة والمُهاجَرة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

كلما يَهل علينا عام هجري؛ يجدد فينا معاني الهجرة إلى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه سلم، وهي الهجرة المعنوية التي لم يغلق بابها، ولن يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها؛ وهي التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «الهجرة هجرتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تُقُبِّلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكُفي الناس العمل». أي لم يقبل العمل عندئذ.

بخلاف الهجرة الحسية التي أُغلق بابها الأعظم بفتح مكة، والتي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استُنفرتم فانفروا». وإن كان قد بقي بعض أبوابها كالهجرة من دار يعصى فيها الله تعالى إلى دار يطاع الله تعالى فيها، أو من دار يخاف الإنسان فيه على نفسه أو عرضه، أو لا يجد فيه سبل العيش الكريم، إلى دار يأمن فيها على نفسه وعرضه وعيشه، وهذه أحوال قليلة بالنسبة للهجرة العظيمة التي كانت فرضاً على من أسلم في أول أمر الإسلام، والتي فضل الله تعالى أهلها على غيرهم تفضيلاً عظيماً.

ولإن فات الناس ذلك الفضل العظيم فقد بقي باب كبير مشْرعاً لمن يريد أن يهاجر إلى الله تعالى فيلحق السابقين، إنه باب المهاجرة إلى الله تعالى، فإنه باق ما بقي الإيمان في بني الإنسان، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله «المسلم من سلمه المسلمون في لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله تعالى عنه». فهي مهاجرة إلى الحق سبحانه الذي أمر بالفِرار إليه بقوله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، والفرار إليه هي الهجرة إليه بترك المعاصي، والمبادرة إلى الطاعات، والمسارعة في القربات، لأن الفار يخاف مما فر منه إلى من يأمن عنده، والذي يُخاف منه هو الله سبحانه، والذي يؤمن عنده هو الله جل ذكره، ولا يحصل الأمن عنده إلا لمن هاجر إليه جل شأنه، والمهاجر شأنه أن يكون ملتزماً بآداب الهجرة وأحكامها وما لها وما عليها، وقد ندب الله تعالى من يريد أن يهاجر إليه أن يتحلى بهُحران ما نهى الله تعالى عنه، لأن تلك المناهي هي حدوده التي حدها لعباده، ونهى عن تعديها، وأعظمها الإشراك به، ثم حقوق عباده، أما الإشراك به فهو الذنب العظيم الذي لا يغفره الله تعالى ولا يقبل معه أي عمل وإن عظم، وأما حقوق عباده فهي القاصمة لظهر المرء التي لا يجد معها فسحة حتى يؤخذ الحق منه، ولا سيما الدماء التي هي أعظم حرمات العباد، فمن هاجر إلى الله تعالى عرف حدوده فلا يتعداها فعلاً للمحرمات، ولا تقصيراً في الواجبات، ولا توانياً في الطاعات، وبذلك يكون المرء مهاجراً إلى ربه، وسيهديه ويعينه ويرضيه.

إننا في زمن أحوج ما نكون فيه إلى الهجرة إلى الله تعالى، فهو زمن الغربة، وزمن اقتراب الساعة، وزمن طغيان المادة، وزمن الهرج والمرج، وزمن الأهواء المختلفة، وزمن الفتن المضلة، وزمن الفرقة المَقيتة.. وكل هذه قواصم تحتاج إلى عواصم متعددة، وأجلُّ العواصم هي الهجرة إليه سبحانه كما ندبنا إلى ذلك نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وكما كان حال كثير من السلف في زمن كان خيره أكثر من شره، فما بالنا اليوم؟!

إن الهجرة إلى الله تعالى فيها الأنس به سبحانه، وفيها الرضا عنه، والطمأنينة في الدنيا، والسعادة في الأخرى، فعلينا أن نسعى إليها بجد قبل أن يفوتنا ركب المهاجرين، وعندئذ يفوز السابقون ويندم المتخلفون، كما قال بعضهم:

أترجو أن تكون رفيق قومٍ * لهم زاد وأنت بغير زادِ؟!

وما أحسن قول أبي العتاهية:

                       غدا تُوفَّى النفوس ما كسبت

ويحصد الزارعون ما زرعوا

                       إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم

وإن أساءوا فبئس ما صنعوا.

نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويوفقنا لما يرضيه عنا.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر