كـل يــوم

مشروع صغير يحمل رسائل كبيرة

سامي الريامي

إذا رجعنا بالزمن إلى الماضي البعيد، فهل كانت هناك شحنات غذائية مستوردة تصل من مختلف دول العالم إلى هذه المنطقة حيث يعيش أجدادنا؟ وهل كان اعتمادهم عليها بشكل أساسي لضمان استمرارية حياتهم؟ وما البدائل التي أوجدوها؟ ومن أين كانوا يأكلون؟

هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، فاجأني بها صديق عزيز يمكن اعتباره أحد أهم الكوادر الوطنية المتخصصة في الغذاء، فهو حاصل على شهادة الدكتوراه في الأمن الغذائي، ولديه تجارب فريدة في الإنتاج والزراعة، ونجح إلى حد كبير في زراعة مئات الأصناف من الفواكه والخضراوات في مزرعته بالدولة، هذه الأصناف كنا نظن أن من سابع المستحيلات رؤيتها في مزرعة داخل الإمارات.

بل إنه يؤكد وجود أنواع «أصلية» من القمح في الإمارات، ولايزال المزارعون يحافظون عليها كسلالة أصلية، فهي لم تختلط بعمليات التعديل الجيني، وقد توارثوها أباً عن جد، وتزرع على سفوح الجبال، وغالباً فإنها لا تسقى إلا بمياه الأمطار، هذه السلالات غير موجودة في كثير من بلدان العالم الزراعية، وأغلب الدول المنتجة للقمح، وأهمها أميركا، تستخدم القمح «المهجن» وليس الأصيل، وهناك فروقات كبيرة في القيمة الغذائية بينهما!

نظرية هذا الرجل تقوم ببساطة على أن لكل بيئة، مهما كان مناخها أو طبيعتها، إنتاجها الخاص من الأطعمة والأغذية بالشكل الذي يلبي احتياج ساكنيها، ويدلل على ذلك أن الأجداد في الإمارات وفي شبه الجزيرة، كانوا يحصلون على طعامهم مما تزرعه وتحصده أيديهم في أراضيهم، ومنذ زمن طويل ضارب في القدم، رغم الطبيعة الصحراوية السائدة، صحيح أن الكميات كانت تتلاءم مع عدد السكان، إلا أن الفكرة واحدة، هناك منتجات غذائية لكل أرض، لذا فإن هذه الأرض الطيبة مازالت تستطيع أن تنتج الغذاء عن طريق الزراعة، شريطة توفير السبل الصحيحة لهذه الزراعة، وشريطة أن نعرف بالضبط ما الذي نريده، وكيف نحصل عليه، بشكل مفيد وذي جدوى اقتصادية!

هذا المواطن الطموح، لم يكتفِ بالدراسة النظرية، والجميل أنه يطبق عملياً وميدانياً كل قناعاته الشخصية، ومخزونه العلمي، فبدأ مشروعه «الشخصي» لنشر الوعي والثقافة الغذائية، وترسيخ مفهوم الغذاء الصحي بديلاً للوجبات السريعة، وبأسلوب علمي متطور، فأنشأ مطعماً، لا يهدف من ورائه لتحقيق الربح بشكل أساسي، بقدر ما يهدف لجعله نموذجاً واقعياً لإمكانية توفير بدائل صحية ولذيذة ومفيدة لكل أشكال الأكلات غير الصحية، والجميل في هذا المشروع أن أغلب المواد الغذائية المقدمة في وجبات المطعم، هي من إنتاج مزرعته، أو مزارع أخرى، ويتأكد بنفسه من طريقة زراعتها العضوية الصحيحة!

لا يهمني كثيراً التركيز على المطعم، فالهدف هنا ليس دعائياً، لكن أسلوب العمل يستحق فعلاً الاهتمام والالتفات من قبل الجهات المعنية، لعلها تستطيع مساعدته على نشر هذه الثقافة الغذائية المهمة، وأهم المفاهيم التي يحاول نشرها، وبدت واضحة من خلال مشروعه، أننا نستطيع فعلاً أن نأكل مما تزرعه أيدينا!

واللافت أيضاً ألّا شيء في هذا المطعم يُلقى في القمامة، ولا يوجد أصلاً طعام زائد، ولا فضلات، فكل الزوائد يتم تحويلها عبر جهاز إلى سماد عضوي، هذا السماد يعاد حقنه في المزرعة ليقدم للأشجار والنباتات ما تحتاج إليه من البروتينات والمكملات الغذائية التي تساعدها على النمو، وحتى زوائد الأوراق النباتية والعيدان الصغيرة تزرع في أحواض إلى أن تنمو جذورها لتعاد زراعتها!

إنها بالفعل أفكار تعكس مدى الوعي والحرص والاهتمام بمفهوم الاستدامة، والمحافظة على البيئة، وتنمية الإنتاج الزراعي، وهي تجربة صغيرة، لكنها بالفعل كبيرة في معناها وأسلوب عملها، وهي جديرة بالاهتمام، وجديرة بالانتشار، لتقضي على كثير من المفاهيم الخاطئة التي عشعشت في أذهاننا منذ سنوات طويلة، وهي التي جعلتنا نستورد كل شيء بعد أن أيقنا خطأً بأننا لا نستطيع إنتاج أي شيء!

twitter@samialreyami

reyami@emaratalyoum.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر