5 دقائق

عِظم الأمانة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الأمانة كلمة مشهورة على الألسنة، محببة إلى الأفئدة، يود كل امرئ أن يكون له كِفل منها؛ ليعيش بها بين الناس شريفا، ويذكر بها في الأزمان فيكون جوهرا نفيسا، وهي مسؤولية عظيمة لا يقدر على حملها إلا العظماء، ولا ينال شرفها إلا الأتقياء. ولما كان الإنسان تواقاً إلى الفضائل فإنه لم يتردد في حملها يوم أن عرضت عليه، مع أن الأجرام العظيمة أبت حملها؛ لأنها تدرك تبعاتها، كما قال الله تعالى:{إِنا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}.

وأيّاً ما كانت هذه الأمانة التي عرضت على الأجرام العلوية والسفلية من تكاليف أو غيرها، فإن اسم الأمانة يشملها جميعا، وهي تعني: أداء الواجبات، والحفاظ على الرسوم والعادات، والتعامل بالأخلاق المرضيات، والتنزه عن النقائص والآفات.

وأجل هذه الأمانات هو أمانة المسؤولية التي تترتب على حملها مخاطر حقوق البشر، وحمايتهم من الأذى والخطر، والتي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لأبي ذر، رضي الله تعالى عنه، يوم أن سأله الإمارة، فلم يعطه إياها؛ لما رأى فيه من ضعف عن حملها، وقال له:«يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»، وهل كان في أبي ذر رضي الله عنه ضعف النفس ليخون وهو الزاهد العابد، أو ضعف الشخصية فيتأثر بأدنى قضية وهو أصدق الناس لهجة؟ كلا.

إنما كان ضعفه لما تحتاجه هذه المسؤولية من القيام بمصالحها آناء الليل وأطراف النهار، بحيث لا يصرف عنها وقتاً، ولا يألو فيها جهداً، ولا يؤثر عليها نفساً ولا ولداً، وهي مسؤولية تتقاطع معها المصالح الشخصية، وتتعارض معها نوازع النفس البشرية، فمن لم يكن عالماً من نفسه القدرة على أداء واجباتها، وإحاطتها بجميع رعايتها، فإنه لا شك سيفرط فيها أيما تفريط، ويسقط عندئذ عن سُلم الرقي الأخلاقي الذي يتنافس فيه المتنافسون في هذه الحياة، فأين مسؤولية الأمانة مع من يؤثر مصالحه الذاتية على مصالح الرعية، وهو يعلم أنه سيكون مسؤولاً أمام ربه وربهم الذي ولاه أمرهم؟ وقد ورد أنه «ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه، فكّه عدله، أو غله جَورُه»، كيف يكون مصيره يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا تنفعه رئاسة ولا وزارة؟ هذا إن فسح له في الأجل، ولم يباغت بعواقب سوء العمل، والغالب خلاف ذلك، فقد قالوا: إن مما تعجل عقوبته ولا تؤخر؛ الأمانة تُخان، والإحسان يُكفر، والرحم تُقطع، والبغي على الناس.

وكم في الدهر من عبر قريبة، وأخبار غريبة، تكفي لأن تكون عظة للمعتبرين، وزاداً للمتقين، وسلوى للموتورين، فإن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، ولا تضيع لديه حقوق العباد، في هذه الدنيا ولا يوم التناد.

فيا ليت من يلي هذه الأمانات أن يعتبر في الترهيب بما حل في البلدان من التخريب، وأن يقتدي في الترغيب بمن ولي فكان أعف الناس عن أموال الرعية، وسهر على مصالح البشرية، وقدم ما في وسعه من العطية، كهذه الأسر الحاكمة من آل نهيان وآل مكتوم وإخوانهم الأمناء، وأضرابهم الأوفياء، الذين كسبوا محبة الناس الفائقة، وثناءهم العطر، ودعاءهم الصادق، فلله درهم من عدول، وأمناءَ وصفهم يطول.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر