إن الملأ يأتمرون

كم هو عظيم تأثير الكلمة في حياتنا، وكم يهتم السياسيون والناس العاديون بما تعنيه الكلمة ودلالاتها. هكذا يبدو المشهد كاذباَ، عندما نسمع الحديث حول انغماس الأدباء في المؤامرة على الأمة، أو نقرأ الاتهامات العنيفة حول صلة الشاعر الكبير بالسفارة الكبيرة، وحين يتراشق الأدباء بينهم بالعمالة للنظام القائم أو النظام الراحل، وهي اتهامات ليست من الحقيقة في شيء غالبَ الأحيان، ولكنها جزء من خلط السياسة بالأدب وهو خلط قائم في الأذهان وفي طرق التفكير وفي فهم النصوص الأدبية، وهذه النوعية من الاتهامات حدثت أكثر من مرة، فأدونيس متهم دائماً بأنه رأس الحربة في مؤامرةٍ لهدم التراث وتغريب الأمة، على الرغم من ما يكتنف تعريف مصطلح الأمة من غموض واجتهادات متباينة أصلا، على الرغم من أنه أحد أهم دروس التراث ونقده. وما حدث أخيراً في الجزائر دليل واضح على هذا الصنف من التهم.

ويوسف الخال نال نصيبه من التهمة عندما أصدر مجلة «شعر» وعلى الرغم من أنه استكتب مختلف التيارات فقد وسم بالعداء للعروبة في صيغتها القومية، بأنه يخدم الاستعمار وهي تهم لا يمكن إثباتها. يكفي نطلقها في الهواء بعد ثرثرة وأرجيلة. لكن هناك تهماً لم تولد في المقاهي، فالشاعر توفيق صايغ اتهم حين أطلق مجلته بأنه ممول استخبارياً وأسهمت نزعته الليبرالية في دعم تلك التهمة وهي تهمة صحيحة وإن قيل في الدفاع عنه أنه لم يكن يعلم بمصدر التمويل الحقيقي، حتى أنه مات كمداً في مصعدٍ بأميركا.

المصادرات أيضاً تعكس فكرة المؤامرة، فحين تقر سلطة ما مصادرة نص إبداعي ما، فلأنه يشكل خطراً على الثقافة أو الهوية أو السلم الأهلي، فالمبدعون إخوان الشياطين كما لا يخفى على أولي العزم في الرقابة.

وراء هذا كله تكمن نزعة متجذرة في السلوك الثقافي العربي والسياسي أيضاً، فالسياسة وليدة الفكرة في مرحلة التكوين، وهذه النزعة يمكن تسميتها بأسطورة الهوية النقية فالهوية في هذه الحالة ليست أكثر من كأس ماء نقي ومفلتر، وعلى كل أبناء الوطن أن يشربوا منه ليزدادوا نقاء، ولكن معيار النقاء لا يصح الاختلاف فيه، فالنظام السياسي ومن ورائه الفكرة التي تؤسسه هما المقياس الوحيد للوطنية في نسختها المفلترة، ومن يختلف معهما أو ينقدهما فقد دخل المؤامرة من بابها الأسرع. وحينها يصبح الأدب ممارسة أخلاقية تعتني بالفضائل كما يقدمها النظام، وتصبح الكتابة عملاً وطنياً يهتم بتمجيد الإقصاء و الإلغاء والتخوين، وتفقد النصوص كل حريتها لتكسب نقاءها وتكسب تجسيدها للهوية الوطنية المفترضة. ومن يعارض أو يكتب نصاً مختلفاً فقد حقت عليه لعنة الكتابة، وأضيف اسمه إلى قائمة المتآمرين وهي قائمة مفتوحة حين تغيب الحرية. ومما يروى في رمي التهم جزافاً أن صحافياً اختلف مع الأديب اللبناني «سعيد تقي الدين»، فوضع خبراً في صدر جريدته يفيد بأن ذلك الأديب شوهد خارجاً من السفارة البريطانية، وبعد وقت قصير شوهد في البنك البريطاني يودع أموالاً. وبعد نشر الخبر اتصل سعيد تقي الدين بذلك الصحافي ليقول له ساخراً: «أرجو أن تشكر مراسلكم فشدة نشاطه جعلته يغطي نشاطات لم أقم بها».. ودامت النزاهة.  

   ytah76@hotmail.com  

الأكثر مشاركة