وظائف وهمية تستخدم باحثين عن عمل في تمرير أموال مجهولة المصدر

حذر خبراء قانونيون وتقنيون من خطورة إعلانات توظيف وهمي عن بُعد، تستدرج الباحثين عن عمل عبر عروض مغرية ورواتب مرتفعة، قبل أن تحولهم إلى أدوات لتمرير أموال مجهولة المصدر، ما يعرّضهم للمساءلة الجنائية من دون أن يدركوا خطورة ما يقومون به.

وأكدوا أن هذه الأساليب تبدأ عادة برسالة قبول فوري من دون مقابلات أو اختبارات، تطلب من الباحث عن عمل تزويد الجهة المزعومة ببياناته الشخصية وفتح حساب مصرفي جديد بحجة استكمال إجراءات التوظيف، وفي خطوة لاحقة تُسند إلى الضحية مهام بسيطة توحي بأن الوظيفة حقيقية، ثم تحول مبالغ مالية إلى حسابه باعتبارها راتباً أولياً، أو «دفعة تشغيلية»، ليطلب منه بعد ذلك إعادة إرسال هذه الأموال إلى حسابات أخرى داخلية أو خارجية، أو عبر محال الصرافة، الأمر الذي يتحول معه حسابه الشخصي إلى قناة تمر من خلالها أموال مجهولة المصدر.

وتبرز خطورة هذا الاحتيال، وفقاً للخبراء، في أساليب «خدعة تحويل الأموال إلى الحسابات المصرفية»، حيث تستغل حسابات الأفراد لتسهيل نقل الأموال غير المشروعة، سواء بعلمهم أو من دون علمهم، وهو ما يشكل أحد أخطر الأساليب الاحتيالية المؤثرة في الأمن المالي، ويطلق على الأشخاص الذين يجري تجنيدهم لهذا الغرض اسم «ناقلي الأموال»، إذ يتلقون مبالغ مالية في حساباتهم، ثم يعيدون تحويلها لجهات أخرى مقابل «عمولات» أو وعود بأرباح سريعة.

وتبدأ عملية الاستدراج عبر إعلانات وظائف أو رسائل عبر البريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي، تعرض عملاً بسيطاً مقابل دخل مرتفع، ليجد الشخص نفسه جزءاً من نشاط مالي غير قانوني، قد يعرضه للمساءلة القانونية، وخسارة أمواله.

وتتجلى خطورة هذه المخططات في ظهور علامات مريبة قد لا ينتبه إليها الأفراد، مثل تلقي عروض عمل لم يقدموا إليها أصلاً، أو وعود برواتب عالية مقابل مجهود بسيط، أو طلبات متكررة لتحويل الأموال من حسابهم إلى حسابات أخرى، مع الإلحاح على التنفيذ السريع من دون منحهم فرصة للتحقق، كما أن مشاركة البيانات المصرفية أو فتح حسابات لتلقي الأموال لمصلحة آخرين، تعد من أبرز العوامل التي تقود إلى الوقوع في هذه الشبكات.

دليل ظاهري

وتفصيلاً، أفادت مدربة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتسويق الرقمي، المهندسة خلود الحبسي، بأنه مع اتساع نطاق العمل عن بعد، وتزايد الاعتماد على التوظيف الرقمي، باتت رسائل «القبول الفوري» تصل إلى كثيرين دون طلب مقابلة شخصية أو امتحان مهني.

وقالت: «على الرغم من أن هذا الأسلوب يبدو غريباً للوهلة الأولى، إلا أنه يجد طريقه بسهولة إلى من يبحث عن فرصة جديدة أو دخل إضافي، فيندفع بعضهم لقبول العرض دون التفكير في تفاصيله أو خلفيات الجهة التي تقف وراءه».

وذكرت الحبسي أن الحيلة تبدأ بإسناد مهام بسيطة توحي بأن العمل قائم فعلاً، ثم تليها الخطوة الأكثر حساسية وصول مبلغ مالي إلى حساب الضحية تحت مسمى «راتب أولي» أو «دفعة تشغيلية». وهذه اللحظة تعد الأساس الذي يبني عليه المحتالون ثقة الضحية، فهي دليل ظاهري على مصداقية الشركة، بل تغري بعضهم بالالتزام أكثر في العمل الذي يعتقدون أنه حقيقي.

وأضافت أن «هذا الوهم لا يستمر طويلاً، إذ يطلب من الضحية تحويل المبلغ إلى حساب معين بحجة معاملة تخص أحد العملاء، وما إن يقوم بذلك حتى يدخل فعلياً في مسار غسل الأموال، إذ يستخدم حسابه لتمرير مبالغ مجهولة المصدر بصورة توحي بأنها معاملات طبيعية. وهناك حالات لا يطلب فيها من الضحية إعادة التحويل إطلاقاً، بل يستغل حسابه فقط لاستقبال الأموال قبل أن تسحب بطرق مختلفة، كما قد تستخدم بياناته الشخصية لفتح حسابات مالية إضافية باسمه دون علمه، ما يجعله جزءاً من النشاط، حتى إن لم ينفذ أي تحويل بيده».

وذكرت أن «هذه السيناريوهات تتكرر كثيراً، ومنها حالة شاب تلقى عرضاً بدا واقعياً ومغرياً، فباشر العمل دون تردد، وتلقى مبلغاً مالياً ظنه راتبه الأول، ثم طلب منه تحويله، ففعل ذلك دون شك. وبعد فترة قصيرة ظهر اسمه في تحقيق مالي يتتبع سلسلة تحويلات مشبوهة، ليفاجأ بأن حسابه كان جزءاً من عملية غسل أموال لا يعرف عنها شيئاً، وبأنه متورط، لأنه وثق بسرعة في جهة لم يتحقق من خلفيتها».

الجانب الأخطر

وأوضحت الحبسي أن «الجانب الأخطر في هذه العمليات هو قدرتها على محاكاة مؤسسات حقيقية، فالمحتالون يصنعون مواقع إلكترونية احترافية، يستخدمون عناوين بريد تبدو مهنية، ويوظفون لغة رسمية في تواصلهم، ولمن لا يملك الخبرة، تبدو هذه الواجهة كافية للإقناع. ولكن التدقيق يكشف أن هذه الشركات لا وجود لها خارج الإنترنت، وأن كل ما يعرض أمام الضحية ليس سوى غطاء يخفي نشاطاً غير نظامي».

وبيّنت الحبسي خطوات عدم الوقوع في مثل هذه الحيل، وهي التأكد من أن المؤسسة مرخصة ومسجلة رسمياً، فالشركات القانونية تترك أثراً واضحاً في قواعد البيانات الحكومية، ويمكن الاستعلام عنها بسهولة عبر منصات الجهات الاقتصادية والرقابية. وقالت: «من خلال هذه القنوات الرسمية يمكن التحقق من وجود الشركة، ونشاطها، ورقم ترخيصها، وتاريخ تسجيلها، أما الشركات التي تختفي عند أول محاولة بحث رسمي، أو تظهر بلا معلومات موثوقة، فهي على الأرجح مجرد واجهة لعمليات مشبوهة مهما بدا مظهرها الخارجي احترافياً».

وشددت على أن «مواجهة هذا النوع من الاحتيال لا تتطلب خبرة تقنية متقدمة، بل تستلزم بعض التروي، والعودة إلى المصادر الموثوقة قبل قبول أي عرض وظيفي، فحتى الأعمال التي تبدو بسيطة أو مغرية قد تخفي وراءها سلسلة من الأنشطة غير القانونية التي لا تظهر حقيقتها إلا بعد أن يصبح الفرد جزءاً منها، وبين عرض عمل قد يبدو مثالياً وفخ مالي متقن الإخراج، يبقى الوعي المبكر والتحقق الرسمي هما الأساس لحماية النفس، فالوظائف الحقيقية لا تبدأ بتحويلات مالية، ولا تجعل من الموظف جسراً لأموال لا يعرف مصدرها».

صيغة رسمية

وحذر المحامي والمستشار القانوني، راشد الحفيتي، من عروض «الرواتب العالية» و«الأعمال الإضافية محدودة الوقت» التي تعد من أكثر الأساليب التي يستغلها المحتالون لإيقاع الباحثين عن عمل في مخالفات جنائية خطرة، مؤكداً أن بعض هذه العروض يبدأ بمهام بسيطة تستغرق ساعتين يومياً مقابل أجر كبير، ثم تتطور تدريجياً إلى عمليات مالية غير مشروعة تحت غطاء «مهام تشغيلية» أو «جزء من عقد الوظيفة».

وأوضح أن المحتالين يمنحون الضحية اتفاقية عمل بصيغة تبدو رسمية، لخلق انطباع بالمصداقية، ثم يطلبون منه تنفيذ مهام مثل «تسليم مبالغ مالية لشخص معين»، أو «تحويل مبالغ لحسابات محددة»، أو استخدام مكاتب الصرافة، أو تنفيذ تحويلات إلى شركات أجنبية.

وذكر أن نوع الطلبات يختلف حسب نوع الجريمة التي تمارسها الجهة المحتالة، وقد يتحول الضحية إلى أداة تستخدم في غسل أموال أو استيلاء على أموال الغير دون أن يدرك ذلك.

وأضاف الحفيتي أن بعض هذه الجهات يفضل استخدام حسابات مواطنين إماراتيين، لرفع مستوى المصداقية أمام البنوك أو الأطراف الأخرى، مقابل وعود بأرباح إضافية أو عمولات، مشيراً إلى أن المحتال يدعي أنه ممثل الشركة أو موظف فيها، لكن المأزق القانوني يقع على الضحية وحده، فالجهات المختصة لا تحاسب إلا الشخص الذي استخدم حسابه أو نفذ التحويلات باسمه.

وأكد أن العديد من الأفراد خسروا أموالهم أو تورطوا في قضايا غسل أموال واحتيال بسبب توقيعهم عقود عمل لم يتحققوا من صحة الشركات المزعومة التي تقف خلفها، مضيفاً أن هناك من يدخل في هذه العمليات بنية الربح السريع، متغاضياً عن مشروعية العمل وقانونيته، وهو ما قد يقوده إلى عقوبات تصل إلى السجن المؤبد، إذا ثبت تورطه في غسل أموال.

وأشار إلى أن المحتالين يعملون ضمن مجموعات كبيرة، ويستقطبون آلاف الباحثين عن عمل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمكالمات الهاتفية، ومواقع البحث عن الوظائف، مع وعود بزيادات في الراتب كلما نفذ الضحية مهام جديدة، إذ إنه كلما وقع شخص في الشرك، يستبدلونه بغيره، ويكررون الخطة نفسها، مستغلين حاجة الأشخاص للوظائف.

ولفت إلى أن بعض الشبكات تنشئ مكاتب فعلية أو منصات تداول وهمية، وتستخدم لغة مالية احترافية لتضليل الضحايا، مدعية أنها «وكيل مرخص» أو «شركة تداول عالمية»، بينما الواقع أنها واجهات تستخدم لتسويق عمليات مشبوهة.

عروض «مغرية»

إلى ذلك، أكدت المحامية والمستشارة القانونية، حنان سالم البايض، أن أخطر ما يواجهه الباحثون عن عمل هو الانسياق وراء عروض تبدو «مغرية»، لكنها في حقيقتها بوابات لجرائم مالية منظمة، مشيرة إلى أن المحتالين يستغلون حاجة الأفراد للوظيفة عبر صياغة عروض تبدو رسمية، قبل تكليفهم بمهام مالية لا يدركون خطورتها.

وقالت إن الخطوة التي يقع عندها غالبية الضحايا هي استقبال مبالغ مالية في حساباتهم الشخصية، معتبرة أنها اللحظة التي يتحول فيها الشخص قانونياً من «باحث عن عمل حسن النية» إلى «شريك في عملية تحويل أموال مجهولة المصدر»، ما قد يوقعه تحت طائلة قانون غسل الأموال وتمويل الإرهاب، حتى لو لم يكن يعلم بطبيعة النشاط.

وأضافت أن بعض الضحايا يعتقدون أن وجود «عقد عمل» أو «اتفاقية مكتوبة» يحميهم قانونياً، وهو اعتقاد غير صحيح، لأن القانون ينظر إلى الفعل نفسه، وهو استقبال الأموال وتحويلها، موضحة أن الصياغات الرسمية التي تقدمها هذه الجهات ليست سوى أدوات لإضفاء وهم الثقة، بينما الجهات الفعلية لا تمتلك ترخيصاً تجارياً ولا وجوداً قانونياً.

وأكدت أن «الجهل بالقانون لا يعفي من المسؤولية»، وأن القوانين الاتحادية المنظمة لمكافحة غسل الأموال تضع على الفرد مسؤولية التحقق من مشروعية مصدر الأموال التي يتعامل معها، وتحذر من استخدام الحسابات الشخصية لأغراض تحويل الأموال للغير، معتبرة أن ذلك من المؤشرات الحمراء الدالة على النشاط الإجرامي.

وأشارت إلى أن العديد من القضايا التي مرت أمام القضاء أظهرت أن الضحايا لم يكونوا جزءاً من الشبكات الإجرامية، بل تم استغلالهم تحت غطاء «وظيفة» أو «عمولة»، لكن النتيجة كانت خطرة، ووصلت إلى مساءلة قانونية، وتجميد حسابات، وشبهات مالية يصعب محوها من السجلات البنكية.

وذكرت أن السلامة المالية مسؤولية شخصية، والتحقق من مشروعية أي تعامل مالي هو واجب لا يمكن التهاون فيه.

• شاب تلقّى عرض عمل وقبض مبلغاً طُلب منه تحويله، وبعد فترة ظهر اسمه في تحقيق يتتبع تحويلات مشبوهة.

الأكثر مشاركة