اشتعال حرب الموارد والاستراتيجيا وانكماش معركة الإرهاب

 إدارة بوش استثمرت أحداث سبتمبر لأغراضها السياسية.  أرشيفية - أ.ب  

 سوف يتذكر العالم ولفترة طويلة تلك الاحداث التي هزت الولايات المتحدة في 11 سبتمبر .2001 فقد غيرت تلك الاحداث وجه العالم وإلى الأبد، حيث أثرت في السياسة الداخلية والخارجية لكثير من الدول، فمنها من استحدثت قوانين أمنية جديدة وانضم للتحالف من اجل مكافحة الارهاب، ومنها من استقل الخطاب القوي ضد الارهاب للتنكيل بأعدائه في الداخل والخارج.   


  
  للحرب  الأميركية على الإرهاب والتي شهدها العالم منذ احداث سبتمبر - سمات كثيرة، لكن الأبرز فيها هو انتفاء الفواصل بين الصحيح والباطل والحقيقي والافتراضي إلى الحد الذي يشكك في كثير من تفاصيلها بدءاً من دوافعها ومسارها وحتى اطار خطابها ونتائجها المرجوة. فبقدر ما صدم العالم وتعاطف مع الشعب الأميركي وآلاف المدنيين الأبرياء الذين تعرضوا هم أو ذووهم للحادث الإرهابي البشع ،بقدر ما فوجئ بترجمة ذلك من إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش وعصبة المحافظين الجدد إلى حرب انتقامية لا تستهدف إحقاق العدالة أو ضبط الجناة - وإنما ترويع بلدان وإحراز نصر شعبوي رخيص في الداخل الأميركي واستغلال ماجرى للبطش بمعارضي السياسة الأميركية في العالم.

 

في كتابه «خطة الهجوم» يحكي الصحافي الأميركي المعروف بوب وودورد عن المفارقة العجيبة لنائب الرئيس الأميركي ديك تشيني الذي أصر عقب الحادث بدقائق وأيضاً في اجتماعه في اليوم التالي بطاقم الحكم على الصاق تهمة الهجوم على العراق، كما يرصد أيضاً إعلان وزير الدفاع الاميركي السابق (رئيس الأركان انذاك) دونالد رامسفيلد في ظهيرة اليوم التالي باجتماع مع مساعديه «أننا يجب أن نضرب صدام حسين بالتزامن مع بن لادن» وأن «يصيغ  محامي البنتاغون لبو وولفيتز (نائب وزير الدفاع آنذاك) الصلة بين الرجلين»، علاوة على ذلك أصر رامسفيلد في عشية اليوم نفسه وفي اللقاء الذي تم عبر الدائرة المغلقة بينه وبين بوش وتشيني على أن الهجوم «فرصة لإطلاق الهجوم على العراق». 

 

في هذا الاتجاه يمكن رصد ضياع البوصلة من اللحظة الأولى في ما يسمى بالحرب العالمية على الإرهاب أو بالأدق توجيه البوصلة تجاه أهداف مسبقة في أذهان فئة محدودة في قلب الإدارة الأميركية، كان الاستثناء في ذلك وزير الخارجية الأميركي آنذاك كولن باول الذي أعلن صراحة «بأن لا علاقة بين صدام وأحداث سبتمبر» وأن «الإصرار الوهمي على تلك العلاقة سيفكك التحالف الدولي ضد الإرهاب حيث سيدرك المشاركون فيه أنه مجرد طعم وأنه تم توجيهه لغير ما اتفقوا عليه مع أميركا عند دخوله» وكان إلى جانب باول في ذلك مجموعة من العسكريين  المحترفين مثل نائب رئيس الأركان اندرو كادر ورئيس وكالة الاستخبارات الاميركية (CIA) جورج تينيت وغيرهم.

 

لقد كانت هذه اللحظة نقطة انطلاق «رحلة الضياع» في الحرب على الإرهاب والتي أوصلت باول نفسه - وهو الذي تصدى لالحاق العراق بهذه الحرب - إلى الوقوف في الأمم المتحدة لسرد جملة من الإدعاءات التي لا ترتكز على أدلة ابرزها  قوله باعتراف قيادي من القاعدة بالصلة بينها وبين صدام، ذاك الاعتراف الذي كشفت الصحافية الأميركية جين ماير في كتابها الأخير (الجانب المظلم - كيف انتقلت الحرب على الإرهاب إلى حرب على القيم الأميركية) أنه إقرار «أدلى به الأصولي أبوالفرج الليبي تحت التعذيب الشديد بطلب من ضابط في سجن شرق أوسطي وتراجع عنه الليبي بمجرد عودته لأميركا وأوصت المخابرات العسكرية الأميركية بإهماله لتفاهته».

 

 كذلك يمكن اعتبار هذه الانطلاقة بداية تحول أضحت فيه الحرب على الإرهاب جملة مفتوحة تشمل العراق وأفغانستان وتتشكل غطاءً للمذابح الاسرائيلية في فلسطين المحتلة وتبرر غزو الصومال واستقدام القوات الاثيوبية إليها ووصولاً إلى ضرب مناطق في باكستان دون استشارة حكومتها، حرب تبرر التعذيب والسجون الطائرة واختطاف المشتبه بهم من العواصم الأوروبية وتقر التجسس على المواطنين وإصدار القوانين سيئة السمعة (الباتريوت أكت) - بصيغة أخرى - وبتعبير تشيني فإن سبتمبر أحدث نقلتين في مواجهة الإرهاب  الأولى «تخفيض سقف الاحتياج إلى دليل أو ما يسمى أميركياً البندقية التي ينبعث منها الدخان «والثانية » الانتقال من الدفاع إلى الهجوم».

 

 لقد اعتبر كثيرون منهم المفكر الأميركي ناحوم تشومسكي أن الحرب  بالصيغة التي طرحها بوش وعصبة المحافظين الجدد هي «حرب تشفي»، وشكك كثيرون من داخل المطبخ السياسي الأميركي ذاته في مدى دقتها لتحقيق المصالح الأميركية ذاتها، واعتبر الصحافي المصري محمد حسنين هيكل اختيار العراق وافغانستان مجالاً لها ليس أكثر من تصميم «ميدان رماية» مهمته توصيل رسالة إلى روسيا والصين وحماية الفراغ الاسيوي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فيما أشار المفكر العربي كلوفيس مقصود «أن الأساس في التوسع في هذه الحرب وارتجاليتها هو مجانيتها». 

 

مراجعات 
حملت نتائج المفهوم المهلهل للحرب الأميركية على الإرهاب نتائج لم تكن في مخيلة إدارة بوش.  ففي حين كانت تتصور أن غزو العراق سيكون مجرد نزهة تنطلق منها لتغير خارطة الوطن العربي في ما سمّي بالشرق الأوسط الجديد تحول العراق ذاته إلى مستنقع لها أما أفغانستان التي وجدت واشنطن بالكاد لها أهدافاً فيها وسط البيوت الطينية التي كانت تقصفها في كابول عام 2001 فقد تحولت لجبهة استنزاف شرسة. يعدد الكاتب الباكستاني أحمد رشيد - وهو الذي كان من أشد مناصري واشنطن بعد أحداث سبتمبر - إخفاقات الحرب الأميركية على الإرهاب في كتابه الصادر الشهر الماضي «النزول في الهاوية» فشل الولايات المتحدة في إعادة بناء أفغانستان وباكستان ووسط اسيا. 

 

فيقول «إنه بعد سبع سنوات من ضرب أفغانستان وبدلاً من تقليص القاعدة انطلقت المنظمة الارهابية إلى افريقيا واسيا واوروبا واستراليا وقلب المدن الأوروبية، انهارت أفغانستان رغم مليارات الدولارات التي انفقت عليها ورغم وجود 45 الف جندي اجنبي على اراضيها وعادت طالبان أكثر قوة وارتفع عدد الدول الفاشلة والمتضمنة على بيئة صالحة لنمو الإرهاب من 16 دولة 2003 إلى 27 دولة 2007 طبقاً لارقام البنك الدولي وتدهور وضع خمس دول تشكل القلب الاسيوي هي كازخستان وكارجيستان وتركمنستان وطاجيكستان وأوزبكستان والتي تعاني من ديكتاتوريات متوحشة وتعثر اقتصادي وعزلة عن العالم».

 

بصيغة أخرى فإن الولايات المتحدة التي ارادت تحويل اطروحة الحرب عن الإرهاب إلى فزاعة عالمية «بدلاً من أن تصرف العفريت أحضرته» بل حولته من   كيان  هلامي إلى واقع ملموس. على إثر هذه النتائج جاءت التراجعات الأميركية عن النهجين الأحادي والاستباقي - مؤكدة أيضاً أن أميركا هي التي استخدمت المحافظين الجدد وليس العكس وأن الالة السياسية الأميركية تملك الية للتدقيق والمراجعة تمكنها من تجاوز العثرات، وقد تمثلت روح المراجعة على أكثر من  مستوى على الصعيد السياسي واضطرار بوش إلى الاستعانة برموز المدرسة الواقعية (كيسنجر - بيكر - بريجنسكي) على حساب مدرسة المحافظين الجدد وكانت أولى ثمار هذا التغير صدور تقرير بيكر - هاملتون، بشأن الوضع في العراق، وعلى صعيد المراجعة الفكرية حيث كتب فرانسيس فوكوياما كتاباً بعنوان (ما بعد المحافظين الجدد) كما كتب فريد زكريا رئيس تحرير نيوزويك كتابه «عالم ما بعد أميركا» وكتب صقر المحافظين روبرت كاجان كتابه «عودة التاريخ ونهاية الأحلام»، كما تمت المراجعة على الصعيد العسكري حيث طرحت فكرة جدولة الانسحاب من العراق وتركيزها في مواجهة القاعدة في الارضين الأفغانية والباكستانية - وهي الفكرة التي خاض على أساسها المرشح الديمقراطي باراك أوباما الانتخابات الرئاسية واعتبرها المخرج للأزمة الرئاسية. 

 

الحرب الجورجية الروسية
 في هذا الإطار جاءت الحرب الجورجية الروسية - قبيل أشهر من نهاية ولاية بوش - جملة الختام في النهج الاستباقي والأحادي الذي يشكل لب الفهم الأميركي للحرب على الإرهاب وجاءت في لحظة اضحت محسومة رؤية إخفاقاتها على الأرض، جاءت الحرب تطوراً من خارج السياق الأميركي لاطلاق وإدارة النزاعات المسلحة في حقبة مابعد الحرب الباردة وتبدى عبر تداعياتها  سواء من حيث تجاوزها لمحطة استقلال اوسيتيا الجنوبية وابخازيا  إلى مواجهة تمدد حلف شمال الأطلسي ومبادرة الدرع الصاروخية الى المواجهة الصامتة بين السفن البحرية الأميركية في البحر الأسود والتصدي المكتوم الروسي وطرح أوراق امداد روسيا لأوروبا بربع احتياجاتها من الطاقة وتراجع الاتحاد الأوروبي عن الصدام مع موسكو، تبدى من كل هذا ومن ردة الفعل الأميركي التي تخلت عن لهجة إما وإما - أن أفقاً سياسياً جديداً يتشكل وأن العالم  سيعود ولو جزئياً إلى نوع من التعددية تتحول فيه السياسة  - كما كانت -إلى رقعة شطرنج بعد أن ظلت لسبع سنوات مجرد  ساحة للإملاء من طرف واحد.

تويتر