فـريـدريــك وورث.. أبو الأزيـــاء الراقية

تصاميمه استقطبت الملكات وسيدات المجتمع  
 
كان من رواد تصميم الأزياء، بل يعتقد بأنه كان أول من وضع اسم علامة تجارية على الفساتين، هو تشارلز فريدريك وورث، مصمم بريطاني الأصول لكنه طغى بموهبته وقدرته على الابتكار، على الأناقة الباريسية، عبر تقديم تصاميم راقية جذبت لها الملكات والشخصيات الاجتماعية المهمة، ليعرف حتى اليوم بـ «أبي الأزياء الراقية»، بينما لا تزال إبداعاته حتى الآن مزاراً للمهتمين  بالمعارض والمتاحف العالمية، شاهدة على موهبة لم تتوقف عن الإدهاش منذ القرن الـ.19


ولد تشارلز فريدريك وورث في 13 أكتوبر عام 1825، في مدينة بورن في لينكولنشاير في إنجلترا، ورغم أنه لم يكن صانع الموضة، حيث كان هناك الكثير من صانعي الأزياء المعروفين قبله، إلا أن وورث كان أول مصمم رجل اتخذ من تصميم الأزياء للنساء مهنة احترفها، كما كان أول مصمم أزياء ينطلق من نطاقه المحلي إلى العالمية، وأول من استخدم عارضات الأزياء.

 

لم تكن حياة وورث دائماً سعيدة، حيث عانى في طفولته إفلاس والده وهجره للعائلة، الأمر الذي جعل والدته تعمل خادمة في منزل أحد أقارب العائلة، وبالتالي كان من الطبيعي أن يعي وورث أن عليه كسب لقمة عيشه منذ سن صغيرة، مما جعله يعمل في أحد متاجر الأقمشة المعروفة واسمها «سوان آند إدغار»، بينما أخذ وظيفة أخرى لاحقا في «لويس آند ألينبي» وهو متجر للأقمشة الحريرية، وهو المكان الذي نال فيه معرفة وعلماً في مجال الخامات وصفاتها، وهي الخبرة التي يعود فضلها لتأثير بو بروميل، صانع الملبوسات الرجالية الانجليزي الشهير، والذي كان يتميز بطريقته الفذة في الخياطة، وهو ما استطاع وورث تشربه جيداً، فكان تطابق الفستان على الجسد، أول ما أصر وورث على تحقيقه عند دخوله عالم تصميم الأزياء النسائية.


الموضة في التاريخ
خلال أوقات فراغه بعيداً عن العمل، كانت اهتمامات وورث فنية ومتصلة بعمله، حيث عادة ما كان يزور المعارض الفنية، خصوصاً المعرض الوطني لدراسة الرسومات واللوحات الفنية التي تظهر سيدات يرتدين فساتين من حقب تاريخية مختلفة، مما كان يعطيه نوعاً من الوحي، كما أثر في أفكاره وتصاميمه لفساتين السهرة، فعادة ما كان يستعير تفاصيل صغيرة من أزياء الماضي، فعلى سبيل المثال، قام وورث خلال تصميمه فستان حفل تتويج الإمبراطورة إليزابيث ملكة على هنغاريا، باقتباس فكرة المشد الدانتيل الذي كانت تشتهر بارتدائه الفلاحات الهنغاريات، محولاً إياه إلى فكرة رئيسة في فستان الإمبراطورة، إلا أنه بدلاً من ربط المشد بالشرائط، قام بربطها بخيوط اللؤلؤ.

 

انتقل وورث من إنجلترا إلى العاصمة الفرنسية باريس عام 1845، ورغم النزاع المبكر في عمله، إلا أنه استطاع بعد ذلك افتتاح متجره الخاص مع شريك له، حيث عمل في بداية انتقاله في متجر «غيغلين» وقام بما كان يقوم به في لندن، من بيع للأقمشة والإكسسوارات وفساتين جاهزة، ليتحول مع الوقت إلى البائع الرئيس في المتجر، وهو العمل الذي عادة ما كان يتضمن استئجار عارضات أزياء يرتدين الشالات والإكسسوارات، والمعاطف، المفترض بيعها لعرضها على الزبائن الراغبين في الشراء، وكانت ماري فيرنيت واحدة من أولئك العارضات، وعادة ما كانت ووورث يعملان معاً، لينتهي بهما الأمر للزواج، وأصبحت أماً لابنيه.

 

عادة ما كان وورث يعمل على تصميم وتنفيذ فساتين أنيقة ترتديها زوجته ماري خلال عرضها لإكسسوارات المحل، وكان من الطبيعي أن ينتبه عدد من الزبونات للفساتين الأنيقة والجذابة التي كانت ترتديها العارضة ماري بقصتها وتنفيذها عاليي الجودة، الأمر الذي جعلهن يطلبن من وورث أن يصنع لهن عدداً من الفساتين، ليتحول وورث مع الوقت من البيع فقط، إلى تصميم الفساتين للمتجر أيضاً، وكان منصبه الرسمي الأول كمصمم للأزياء، حيث أسهم في أن يحظى المتجر بالكثير من الجوائز المهمة لفساتين قام هو بتصميمها، وعرضت في معارض كبيرة، مثل «المعرض الكبير» في لندن عام 1851، و«المعرض العالمي» في باريس عام 1855، وكان كل ذلك خطوة مشجعة له جعلته يترك العمل في «غيغلين» سعياً وراء حلم افتتاح متجره الخاص.

 

الرحلة إلى البلاط
وعلى الرغم من محاولاته الكثيرة لإقناع أصدقاء له في اتخاذ خطوة افتتاح متجر خاص له، بمساعدتهم، إلا أن التردد والخوف من القيام بعمل مثل صناعة الأزياء، وهو العمل الذي كان يعتبر غير جدير بالاحترام آنذاك، منعهم عن ذلك، فقرر وورث البحث عمن يساعده في تحقيقه خطوته الأولى لحلم قد يعتبر الرائد في اكتشافه وتحويله إلى مهنة احترافية شهيرة يحسد عليها، وكان أوتو بوبيرغ، الشخص المنقذ، والممول المادي الذي آمن بموهبة وورث وقدرته على تحويل عمله إلى مجال مربح ولافت، وافتتح كلاهما متجرهما الخاص «وورث وبوبيرغ» عام 1858، لكن وورث علم أنه إن أراد التميز والنجاح وجذب زبائن ورعاة من الطبقة الثرية والراقية في المجتمع، فإن عليه أن ينشر اسمه في محيط البلاط الملكي، لفرنسا التي تحولت في تلك الفترة إلى إمبراطورية ملكية، تحت حكم نابليون الثالث، وزوجته الشهيرة بجمالها وأناقتها يوجين، ولجذب انتباه الإمبراطورة، كان على وورث أن يحظى بإحدى المقربات منها زبونة له، وهذا ما حدث بالفعل.

 

استطاع وورث أن يحظى بولاء الأميرة بولين فون ميتيرنيتش، زوجة السفير النمساوي في فرنسا، كزبونة له، ورغم أنه كثيراً ما جاملتها اللوحات الفنية إلا أن الأميرة بولين لم تكن جميلة، وعادة ما وصفت بأنها قبيحة، قصيرة، ونحيفة، بوقفة مثالية، إلا أنها كانت ذات بشرة شاحبة، وأسنان سيئة، وأعين جاحظة، وأنف معقوف، وفم كبير، وعلى الرغم من مكانتها الاجتماعية العالية، إلا أنها كانت شديدة البعد عن الغرور، وعادة ما كانت تثير النكات حول شكلها، مقارنة نفسها بالقرد، وعلى الرغم من هذه المواصفات السلبية التي حملتها الأميرة بولين، إلا أنها اشتهرت بأناقتها الشديدة، ولم تكن تخاف من ارتداء جديد الموضة، وأن تكون متقدمة عن غيرها في هذا الجانب، بالإضافة إلى كل ذلك، كانت الأميرة بولين الصديقة المقربة للإمبراطورة يوجين، وهذا ما كان يطمح إليه وورث، حيث قدم للأميرة بولين واحداً من ابتكاراته؛ تمثل في فستان أبيض ذي لمعة فضية من التول المقصقص، والمزين بالزهور البرية والقلوب الوردية، بينما زين نحرها بحزام من الساتان الأبيض، وهو ما ارتدته في إحدى حفلات استقبال الإمبراطورة، وكما هو متوقع، أعجبت يوجين بفستان صديقتها، سائلة إياها عن صانعه، وكانت دهشتها عظيمة حين علمت أن صانع الفستان ومصممه رجل، ولم تتردد في أن تدعو وورث إليها وأن يجلب معه بعض الفساتين من تصميمه لتختار منها ما يعجبها.

 
 

حرير «ليون»
لم يكن على وورث سوى أن يقدم أجمل ما عنده للإمبراطورة، ولم يتردد في أن يأخذ في زيارته لها، فستاناً من حرير «ليون» المقصب غالي الثمن، ورغم اختياره المبدع للفستان، إلا أنه كاد أن يخسر الرعاية الملكية لعمله الوليد، حيث سرعان ما أعلمته الإمبراطورة يوجين بأنها لا تحب الحرير المقصب، وأنها تعتقد بأن هذا القماش يبدو كالستائر، ورغم الصدمة واليأس اللذين شعر بهما وورث، إلا أن قدره مع النجاح لم يكن ليتوقف عند هذه اللحظة، فلم يلبث أن دخل نابليون إلى الجناح ورأى الفستان الذي جلبه وورث، وأعجب به كثيراً، خصوصاً حين علم أن الفستان من حرير مدينة «ليون» الفرنسية، ولم يكن منه سوى أن يأمر زوجته بارتداء الفستان، حيث رأى أن ذلك مفيد لصناعة الحرير في مدينة ليون، التي كانت تمر في تلك الآونة بأزمة اقتصادية، وأن الصناعة الفرنسية كانت تحتاج إلى التعزيز والدعم، ومنذ تلك اللحظة في عام 1860، تحول وورث إلى مصمم الأزياء الشخصي  للإمبراطورة، وعلى الرغم من أنه لم يكن الوحيد أو الحصري، إلا أنه كان المفضل لديها، ومن الطبيعي أن تتبع نساء البلاط ملكتهن، محولات وورث إلى مصممهن المفضل.

 

طاغية الموضة
يعود الفضل لوورث في إدخال الكثير من التطويرات والابتكارات على صناعة الأزياء، حيث طور نظاما وطريقة ذكية في تغيير التصميم من خلال تغيير قدم وأجزاء منه فقط، أو من خلال نقل أكمام فستان ما إلى آخر، أو مشد معين على تنورة أخرى، كما استخدم ماكينات الخياطة، إلا أنه لم يكن يثق بها في التطريز والزخرفة واللمسات النهائية وهو عادة ما كان يتم تنفيذه يدوياً.

 

وقد اشتهر وورث بأنه «طاغية الموضة»، كونه كان قادراً على جذب جميع المهتمين إليه، وشديد الإصرار على ألا يخسر أي زبونة، تاركاً إياها لمصمم آخر، حيث عرف عنه، أنه كان يمضي فترات طويلة في الاقناع والابتكار للزبونة، التي لا يمكن أن تخرج من متجره غير راضية، كما كان وورث أول من استخدم عارضات حقيقيات لعرض فساتينه، ففي تلك الفترة، كانت متاجر الأزياء تستخدم عارضات إكسسوارات، فكان وورث أول من حولهن إلى عارضات أزياء، كما أسهم في الوقت ذاته في صناعة فساتين نفذت في مشاغل فرنسية، تم توزيعها حول العالم.

 

كما كان وورث المخترع الأول للتنورة الداخلية التي تعرف بالـ«هوب سكيرت» وهي تنورة داخلية شبيهة بالقفص كانت تعمل على نفخ التنورة، بالإضافة إلى أنه قام بتعديلات كبيرة على التنورة الداخلية المصنوعة من المواد الصلبة أوالمعدن، والتي كانت تصنع للهدف ذاته، حيث كان يعتبر قبل وورث لباساً غريب الشكل وخطيرا أيضا، حيث لقيت الكثير ممن ارتدينه حتفهن عندما كن قريبات من النار، حيث كان من السهل اشتعالها، إلا أنها حملت شيئا من الإيجابية، كونها كانت أخف وزنا من الطبقات العديدة من القماش التي كانت تستخدم في السابق لنفخ الفساتين.

 

وقد طور وورث التنورة الداخلية الصلبة، بطريقة دفعت الانتفاخ الأكبر إلى الوراء، مع الإبقاء على العرض أو الانتفاخ على الشكل العام، بينما كانت التنورة الصلبة ذات المقدمة المسطحة والانتفاخ الخلفي ابتكاره الشخصي، كما كان مخترع «تنورة المشي»، وهي التنورة التي قام بتعديلها بطريقة جعلتها معدة للمشي دون أن تضطر الفتاة لجر أذيالها في الوحل وتوسيخ فستانها، ولكن مع الحرص على أن يكون التصميم طويلاً بما يكفي لإخفاء كاحليها.

 

سقوط الإمبراطورية
كانت الحياة أكثر من مثالية بالنســبة لوورث، حتى سقوط الإمبراطوريــة الفرنسية الثانية، عام 1870، بعد عقد كامل من العمل مصمما شخصيا للإمبراطورة يوجين، التي نفيت وزوجها نابليون في إنجلترا، إلا أن ما كان يبدو فاجعة حقيقية لوورث، تحول إلى فرصة ثانيــة لنجاح أكبر، فرغم خسارة فرنسا لبلاطــها المــلكي، وافتقاره لزبائنه، إلا أنه حول تركيزه وجهده نحو قصور أخرى في دول أوروبية أخرى، وسرعان ما صــار وورث يصمم للأميرات والملكات في روسيا، وبريطانيا، والسويد، وإيطاليا، بالإضافة إلى أميركا، التي كانت في تلك الفترة تزخر باقتصــاد عال ورجال أعمال أثرياء انشغلوا وزوجــاتهم بالتنــافس على درجة  الرقي والأناقة مع وجهاء وأمراء القارة العجوز، فكانت الأعين جميعها موجهة الى مصمم البلاط الملكي الأول، تشارلز فريديريك وورث، ودار أزيائه. 



فريدريك وورث المخترع الأول للتنورة     

استمرار   
لم ينته نجاح وورث حتى بعد وفاته عام 1895، حيث استمرت داره في العمل على يد ولديه غاستون لوسين، وجين فيليب، اللذين أدارا عمل والدهما، واستطاعا الحفاظ على معايير عالية، خصوصاً الابن الأصغر جين فيليب الذي تبع موهبة والده في جمالية التصميم، مع استخدام خامات دراماتيكية لافتة وقصات مترفة، وكان من الطبيعي أن تزدهر الدار بشكل أكبر مع عملهما فيها، حتى عشرينات القرن الـ20، إلا أن اسم وورث لم يكن لينتهي من عالم الموضة، حتى عام 1952، حيث قرر الحفيد الأصغر لوورث، جين تشارلز، اعتزال مهنة العائلة.     


معارض
لا تزال عدد من فساتين مجموعاته العائدة إلى معهد الأزياء، في عدد من المعارض والمتاحف، مثل متحف الميتروبوليتان للفن، كما يمكن رؤيتها في عدد من اللوحات الفنية، للرسام الألماني الشهير ونترهالتر، وجون سينغر سارغنت.  

 

الأكثر مشاركة