|
من بيروت العاصمة التي تقف على حافة هاوية العنف والفوضى، بسبب أسوأ أزمة سياسية تمرّ بها منذ الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990، وجه المخرج التونسي فاضل الجعايبي صرخة مدوية في وجه كل اشكال التطرف والارهاب.
وتدفق مئات اللبنانيين على مسرح دوار الشمس في بيروت لمشاهدة احداث مسرحية «خمسون» التي تظهر تخبط المجتمع العربي في فساد السلطة المستبدة والاصولية العمياء، مركزة على الظلام الخارج من قهر الشعوب وهزائمه.
وفي عام 2005، حيث كانت تونس تستضيف قمة مجتمع المعلومات، قامت استاذة محجبة تدعى جودة، بتفجير نفسها في باحة ثانويتها عقب صلاة الجمعة، واعتقلت الشرطة كل من حولها وخصوصا صديقاتها، ومن بينهن آمال التي كانت تقطن معها في المنزل نفسه، وهي ابنة مناضلين يساريين كبار. تحولت آمال من يسارية الى اسلامية متشددة، واعتبر عملها هذا، اكبر خسارة مني بها والداها. يروي الجعايبي الذي يعد احد الذين صنعوا مسرح الثمانينات في العاصمة تونس، الى جانب امثال محمد ادريس وتوفيق الجبالي وآخرين، الجزء الاكبر من الحبكة المسرحية التي يغلب عليها اسلوب الثرثرة باللهجة التونسية، والتي تترافق مع حركة الاجساد التي شدت انظار المشاهدين. وخلال العرض الذي استمر اكثر من ساعتين ونصف الساعة، اطلقت جليلة بكار كاتبة النص، والتي ادت دور الام مريم صرخة قائلة «نرفض ان نكون رهينة التطرف مهما كان من هنا او من هناك». وخلال سرد المسرحية نجد ان الام مريم قد اختصرت تاريخ تونس المعاصر منذ الاستقلال في عام 1956، فهي واكبت دخول والدها السجن في سنوات الاستقلال الاولى، وواكبت دخول زوجها السجن في السبعينات لأنه شيوعي، وهي تواكب ابنتها في السجون الآن لانها متهمة بالانتماء الى الاصوليين،وتحمل الام العلمانية العصرية لواء القضايا والمواجهات الصعبة، وتحاول مقارعة التشدد في مناخ من الحرية والحوار وإلقاء الحجة عليهم. يجمع الفاضل الجعايبي وزوجته جليلة بكار كارل ماركس وزعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن، في حقبة تاريخية تمتد على مدى نصف قرن ليعيدا الاعتبار الى حق الاختلاف على قاعدة احترام الاخر، ويسعى المخرج التونسي طوال العرض الى الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. فإذا كان انتقد بشدة الاصوليين الذين يقول إنهم يريدون جرّ المجتمع بأكمله الى «مقصلة التكفير» فإنه لا يوفر نقده للعقلية البوليسية التي تلاحق هؤلاء، وكيفية ادارة السلطة للأزمات وخصوصا التعامل مع الارهابيين. لكنه لا يرجع ظاهرة تنامي التطرف الى تقلص الحريات فحسب، بل الى احتلال اراض عربية ايضا مثل العراق وفلسطين، حيث تقول احدى الممثلات «أمل لم تتحول الى متطرفة لو لم يزر (رئيس وزراء اسرائيل الاسبق ارييل) شارون الحرم القدسي». ولا يستثني الجعايبي الحركات اليسارية والماركسية من نقده، فهي برأيه اصيبت بالشلل بعدما تفشت الامراض في جسدها، الامر الذي دل عليه مرض احد المناضلين اليساريين بسرطان الحنجرة. المسرحية جابت عواصم عالمية عدة من بينها باريس وطوكيو، منذ ان انطلقت قبل ثلاث سنوات، لكنها كانت قد حوصرت رسميا في بلدها تونس لأشهر بسبب مطالبة وزارة الثقافة بتعديل اجزاء منها قبل ان تسمح بعرضها العام الماضي. وكان الجعايبي رأى ان «الحل يكمن في القضاء على جميع أنواع التطرف اليميني واليساري. وقال الجعايبي الذي اخرج 20 مسرحية وثلاثة افلام «انا والمؤلفة جليلة بكار نعرف جيدا خطورة ما أقدمنا عليه، لكن اردنا ان نضع مشاهد التنكيل مرآة امام السلطة والمعارضة والمواطن، ليتحمل الجميع مسؤولياتهم وتطرح مواقف بديلة يكون الحوار الحقيقي اساسها».
وواكب المشاهدون اللبنانيون المسرحية التي دارت على خشبة فارغة إلا من الاضاءة وحركة الممثلين وكراسي التعذيب، رغم وجود بعض الصعوبات في فهم اللجهة المحلية التونسية. وقالت الشابة هبة فرحات «ان العرض يظهر التطرف بواقعيته وبالاحداث والتواريخ، وهذا التطرف ليس حكرا على احد، انما هو التطرف بكل اشكاله. لكن الكاتبة جليلة لا تضع نفسها في مكان تقول ان هذا هو الصح اوهذا الخطأ». وأضافت «احسست ان الموضوع جميل جدا والرسالة قوية والسينوغرافيا جميلة جدا، لكن كان لدي مشكلة مع اللهجة التونسية المحلية والتكرار». وقال طالب معهد الفنون يوسف الحركة «انها اقوى رسالة مسرحية في العالم العربي ضد التطرف بكل اسالبيه. تابعنا العرض باهتمام وخصوصا الشغل مع الممثلين وحركة اجسادهم البطيئة والصاخبة، حيث إن هناك اعتمادا شبه كامل على العنصر البشري مع لعبة الموسيقى والضوء». |