ارتفاع أسعار الطعام يمهِّد لثورة المحاصيــــــــــــــــــــــل المعدلة وراثيا
في الوقت الذي يتصاعد فيه الغضب الشعبي حول العالم مطالباً الحكومات بتجميد الأسعار، او تفعيل الحظر على الصادرات يحول صانعو السياسة أنظارهم عن الوقود الحيوي ويهتمون مجددا بالمحاصيل المعدلة وراثياً.
كبير المستشارين العلميين في بريطانيا، جون بيدجتون، لم يقض في وظيفته الجديدة سوى شهرين فقط عندما رسم سيناريوه مخيفا لرؤسائه الجدد. ورأى أن «العالم مقبل على أزمة كبيرة بسبب التغير المناخي تتمثل في الأمن الغذائي».
ففي الوقت الذي ترتفع فيه أسعار السلع دولياً بسرعة غير مسبوقة بدءا من القمح وانتهاء بالحليب، بدأت القلاقل الاجتماعية، والجوع يظهر في مناطق كثيرة من العالم، فارضا تحديا كبيرا على الدول الغنية والفقيرة، ومجبرا الحكومات على دراسة عدة تدابير لخفض الأسعار.
وفي الوقت الذي ظل فيه المنتجون خاضعين لقوى السوق لفترة طويلة، فقد وجدوا الآن أنفسهم فريسة لرسوم الاستيراد المتزايدة والحظر المفروض على التصدير وتجميد الأسعار.
المفاضلة بين الطعام والوقود الحيوي
ويدعو ارتفاع أسعار الطعام الحكومات لإعادة النظر في مشروعات الوقود الحيوي، التي تحوّل بسببها قدر كبير من الأرض الخصبة من إنتاج الطعام إلى إنتاج هذا الوقود.
وهذا من شأنه أن يعزز الضغوط على الكثير من الحكومات لإعادة التفكير في معارضتها للمحاصيل المعدلة وراثيا، والتي من شأنها زيادة الإنتاجية وخفض الأسعار.
ويعتقد رئيس الصندوق الدولي للتنمية الزراعية التابع للأمم المتحدة، لينارت باجي أن «ذلك يمثل موضوعاً سياسياً لجميع الدول». وبينما يرى باجي انه لم يتم بعد التوصل إلى حل للموضوع، تتفق الكثير من الحكومات على تخفيف اللهجة حيال الوقود الحيوي والمحاصيل المعدلة ذلك لأن أسعار الطعام قد وصلت لمستوى الأزمة.
ويشير إلى وجود إجماع بين الدول على أهمية الاستثمار في الهندسة الزراعية- الذي تجاهله الناس خلال العقدين الماضيين- والذي ينبغي أن ينهض إذا أراد العالم أن يرى تكرارا لتلك «الثورة الخضراء» في ستينات القرن الماضي، عندما تضاعف المحصول الزراعي بفضل توفر الري، والمخصبات، والبذور المحسنة، الأمر الذي خفض الأسعار وحرر الملايين من رقبة الجوع.
ويكمن الخطر، كما يعتقد الخبراء، في أن الكثير من صانعي السياسة لديهم رؤية متوسطة المدى عن الأزمة، وأنهم يسعون لحلول متوسطة المدى أيضا، التي قد تكون مؤذية أيضا على المدى البعيد.
وعلى الرغم من التحذير المتكرر من المؤسسات الدولية المعنية مثل برنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة- الذي نضب معينه من الأموال بسبب تعهداته الغذائية للدول الفقيرة- فإن الكثير من الدول، لا سيما تلك المقبلة على انتخابات لا تعمل شيئا سوى كسب مزيد من الوقت.
وتفرض الدول المستوردة للطعام مثل روسيا والصين أسعاراً ثابتة على أسعار التجزئة بالنسبة للأطعمة الأساسية بما في ذلك الحليب والخبز والبيض، وفي الوقت نفسه نظمت فرنسا وأستراليا تحريات محلية عن أسباب ارتفاع أسعار الطعام، ومارست ضغوطا على المخازن الكبيرة ومنتجي الطعام لامتصاص ارتفاع تكلفة الإنتاج.
أما مصدرو الطعام مثل الأرجنتين وكازاخستان يتخذون أيضا بعض الإجراءات بفرض ضرائب كبيرة على المبيعات الخارجية، أو أن هذه الدول تفرض بدلا عن ذلك حظرا على التصدير لضمان إمداد السوق المحلي.
أزمة أكثر حدة
ويتمثل القلق في أن تدابير حظر التصدير قد تتسبب في مردود سلبي أكثر من ايجابي، ذلك لأن تخفيض الأسعار بشكل اصطناعي سوف يجعل الاستثمار في الزراعة اقل ربحية، ويعمل على خفض الإنتاج مستقبلا. كما أن الاستثمار في المزارع الجديدة، على سبيل المثال، قد يفقد مصداقيته بسبب التقلبات السياسية، كما يقول مدير الاستثمار الزراعي في البنك الأوروبي للاعمار والتنمية، جيلز ميتيتال.
وتوافق معظم الحكومات في الوقت الراهن على أن الارتفاع المذهل في أسعار الطعام العام الماضي، حيث ارتفعت تكلفة الطعام إلى 40% عالميا، وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، إنما هو ارتفاع هيكلي ما يعني أن الأسعار لن تتراجع للمستوى السابق، ويعود ذلك إلى ظهور زبائن أغنياء جدد في الصين والهند، الذين يسعون باستمرار لتحسين قيمة أغذيتهم، يضاف لذلك أن صناعة الوقود الحيوي من المحتمل أن تستحوذ على قدر كبير من السلع الغذائية الأساسية مثل القمح والذرة الشامي وفول الصويا.
ويعتقد مدير معهد أبحاث سياسة الطعام الدولية بواشنطن، جواكيم فون بران، أن أزمة الطعام الحالية أكثر حدة من تلك التي حدثت في سبعينات القرن الماضي، عندما ارتفعت الأسعار على خلفية الفورة النفطية والمحصول الدولي الفقير، ويرى أن «الأزمة ستكون أسوأ وتستمر وقتا أطول مما حدث عام 1974».
وتولى المدير العام بمنظمة الأغذية والزراعة (فاو) في روما، جاك ضيوف، دورا رياديا في ترقية الوعي بين الحكومات حول حل بعيد المدى، محذرا انه من دون اتخاذ أي عمل فإن العالم سيشهد قلاقل وارتفاعا في عدد الجوعى.
وتأمل الفاو على أن يشجع ذلك صياغة سياسة منسقة في هذا الشأن في النصف الثاني من هذا العام في ما يتعلق بالوقود الحيوي والتغير المناخي على الأقل. وستعقد هذه المنظمة مؤتمرا عالي التمثيل في روما في يونيو، الذي سيجمع صناع القرار في هذا المجال.
ويقول مساعد المدير العام في منظمة الفاو الكساندر مولر «إن الزراعة عادت مجددا للأجندة السياسية»، ويضيف «إننا نرغب في معالجة المثلث المتمثل في الأمن الغذائي والوقود الحيوي والمناخ لأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا.
تصادم مع الطاقة
وقبل انعقاد هذا الاجتماع ظهرت بعض الإشارات التي تدل على أن هناك إجماعا بدأ يتكون بين صناع السياسة.
وأكد باجي أن «هناك آراء متشائمة عن الوقود الحيوي أكثر مما كان عليه الحال قبل ستة أشهر أو عام». وأضاف انه حتى ولو واجهت المحاصيل المعدلة وراثيا معارضة، فإن هناك وعيا متناميا بأهمية استخدام العلوم في الزراعة.
وفي الوقت الذي بدا فيه للتو الجدال بشأن المحاصيل المعدلة وراثيا، حيث يجد مناصرو التكنولوجيا أنفسهم في موقف ضعيف إزاء المعارضة الكبيرة من الجمهور لهذه المحاصيل، فإن الحملة السياسية ضد الوقود الحيوي تجد زخما متصاعدا، لا سيما في أوروبا.
وأوضح باجي أن «هناك إدراكا متناميا بأن الوقود الحيوي لم يعد ذلك الدواء المتوقع لجميع العلل كما كان يعتقد من قبل». حتى في واشنطن، المؤيد القوي لاستخدام الوقود الحيوي مثل الايثانول لتقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط، توجد معارضة متنامية في هذا المجال.
وبعد أن تجاوزت أسعار الذرة الشهر الماضي 5.7 دولارات للبشل الواحد (مقياس أميركي للحبوب يساوي 35.24 لترا) لأول مرة في التاريخ، ذكر الرئيس الأميركي جورج بوش قائلا «إذا تمعنت لما حدث للذرة فإنك سترى موضوع الطعام يتصادم مع موضوع الطاقة.
وعلى الرغم من أن بوش لم يتخذ خط رجعة حيال الوقود الحيوي، فإن المحللين يعتقدون أن تعليقاته تشير إلى أن واشنطن تقترب من تخفيض ضريبة الايثانول المحلي بمعدل 51 سنتا، أو تخفيض تعرفة الـ 54 سنتا المفروضة إزاء الإيثانول البرازيلي، وكلا الخطوتين من شأنهما أن تقللا من وتيرة توسع صناعة الوقود الحيوي الأميركي.
وتجيء تعليقات بوش على اثر التحذير الذي أصدرته وزارة الزراعة الأميركية من أن صناعة الايثانول ستستهلك هذا العام ثلث إنتاج البلاد من الذرة، أي بزيادة 25% على عام .2007 كما حذر كبير الاقتصاديين بوزارة الزراعة الأميركية، جوزيف غلوبر، بأن « التوسع غير المسبوق» في صناعة الوقود الحيوي سوف يسبب الضغط للسوق الزراعية، «وأن الأسعار ستظل عالية للعامين أو الثلاثة أعوام المقبلة.
ويعتقد صناع القرار بأن الحملة المضادة للوقود الحيوي لن تنهي هذه الصناعة، ولكن من المحتمل أن تحد من توسعها في أميركا وأوروبا، في الوقت الذي سيتركز فيه الإنتاج في الدول النامية، مثل البرازيل، حيث تزدهر هذه الصناعة.
وفي ألمانيا على سبيل المثال، فإن إنتاج الديزل الحيوي انخفض بعد أن بدأت الحكومة في رفع الضرائب على هذا القطاع أواخر 2006، وفرضت أيضا دورة جديدة من الضرائب يناير الماضي.
ويعتقد التنفيذيون في مجال الاقتصاد وصناعة الطعام أن على الحكومات أن تخفف من تشككها حيال المحاصيل المعدلة وراثيا إذا أرادوا من أسعار الطعام أن تنخفض.
ويتشكك المستهلكون، من الناحية التقليدية، في معظم غرب أوروبا وبعض الدول الآسيوية، من بينها اليابان وكوريا الجنوبية، حول استخدام المحاصيل المعدلة وراثيا كطعام.
ويلفت الاقتصادي بالصندوق العام للسلع (التابع للأمم المتحدة) هاردي فيرا، إلى أن المحاصيل المعدلة وراثيا قد تمثل الحل للنقص المريع في المواد الخام الزراعية التي تسبب فيها ارتفاع الطلب العالمي على الطعام، ويقول إن «على الحكومات الاستجابة- لارتفاع أسعار الطعام- بالسماح بتصدير المحاصيل المعدلة وراثياب.
وفي العام الماضي زرعت 23 دولة محاصيل لأغراض الوقود الحيوي، من بينها 12 دولة نامية، في الوقت الذي ارتفع فيه التوسع في هذه المحاصيل دوليا بنسبة 12% زيادة على 2006 لتبلغ المساحة الإجمالية 114.3 مليون هكتار، أي بزيادة 10 مرات خلال العقد السابق.
وزرعت الولايات المتحدة أعدادا متنوعة من الذرة وفول الصويا المعدل وراثيا خلال العقد السابق مما رفع حجم المحصول بنسبة 15%.
المحاصيل المعدلة
وفي هذه الأثناء فإن الدول التي عارضت طويلا المحاصيل المعدلة وراثيا بدأت في قبولها، ففي الشهر الماضي وافقت مجموعة من الشركات الجنوبية الكورية الطليعية على توريد الذرة المعدل وراثيا؛ لاستخدامه في صناعة الأطعمة ولأول مرة كاسرة بذلك احد المحرمات الاجتماعية في الدول الآسيوية. وتقول كبيرة مستشاري السياسة مع منظمة كوغيسا- مجموعة المزارعين الأوروبيين- ماري كرستين ريبيرا، «إن المزارعين في الاتحاد الأوروبي يتطلعون لأن يصبحوا على الملعب نفسه» الذي يضم المزارعين في كل مكان في العالم، وأن يكون لديهم الحرية لاختيار ما يزرعونه من محاصيل سواء كان معدلة وراثيا أم لا.
وتضيف قائلة «إننا نعتمد اعتمادا كبيرا على الواردات لإطعام حيواناتنا، وتتمثل المشكلة الملحة في الوقت الحالي في كيفية تأمين المواد الغذائية. ووفقا لكبير الموظفين التنفيذيين بمصفاة تيت اند ليل للسكر والذرة ببريطانيا ايان فيرجسن فإن المستهلكين الأوروبيين من المحتمل أن يعانوا ماليا إذا استمروا في تجاهل المحاصيل المعدلة وراثيا، ويضيف أن «السوق الذي يحاول عزل نفسه من الأسواق العالمية من المحتمل أن ينتهي به الأمر لأن يدفع أكثر فقد نكتشف فيما بعد بأن المحاصيل المعدلة وراثيا هي الأرخص سعرا والأفضل توفرا. وتجد الحكومات، لا سيما في العالم النامي، نفسها تحت ضغوط كبيرة تضطرها لاستثمارها أموالاً أكثر في الزراعة لتخفيف اعتمادها على واردات الأطعمة.
وأكد الاقتصادي بالبنك الدولي دونالد ميتشل ان ارتفاع أسعار الطعام تعزز رغبة الدول في امداداتهم المحلية «فإذا كانت دولة تعتمد على استيراد الأطعمة بكميات كبيرة فإنها لا شك ستقلق بشأن المخزون الطعام العالمي المتدني والحظر الذي تفرضه بصفة مستمرة الدول المصدرة».
إطعام العالم
أوضح رئيس الاتحاد الوطني البريطاني للمزارعين بيتر كندال انه ليس هناك تحدٍ يواجه العالم اكبر من السعي لوسيلة لإطعام نفسه، وينبغي أن يتضاعف إنتاج الطعام العالمي أو يزيد ثلاث مرات خلال الـ 40 عاما المقبلة للإيفاء بالطلب العالمي، ودعت بريطانيا للوصول «لرؤية جديدة للزراعة» كصناعة تعتمد على تكنولوجيا راقية جدا.
ولا يتضح بعد ما إذا كانت هذه «الرؤية الجديدة للزراعة» ستوفر لصناع السياسة الموارد اللازمة لمواجهة هذه المشكلة، إلا أن المحللين والتنفيذيين الصناعيين يتفقون على أن ذلك قد يكون البداية لحل سياسي لأسعار الطعام المتصاعدة.