مقاهي القدس القديمة.. حكايات على كراسي القشّ

بين الأزقة الضيقة العتيقة، تضم البلدة القديمة بمدينة القدس الشريف عشرات المقاهي التاريخية، التي مر على نشأتها مئات السنين، معظمها مازالت شاخصة كما هي بأبوابها وحجارتها، تحتضنها الجدران القديمة، رغم إغلاق أبوابها قسراً مع مرور الزمان ورحيل أصحابها. ومن أشهرها مقهى زعترة الواقع بداية مدخل باب العامود من الداخل، الذي أغلق في سبعينات القرن الماضي، ومقهى الهوسبيس «الباسطي» في شارع الواد بالبلدة القديمة، الذي تحول إلى مطعم.

ورغم الإغلاق مازالت أماكنها باقية كما هي، يشاهدها كل من مر عبر طريق باب العامود، والحارات العتيقة بداخله، فيما أزيلت بعض المقاهي، وأقيمت مكانها فنادق ومكتبات ومبانٍ سكنية محلية، أبرزها مقهى الصعاليك الثقافي. هذه المقاهي احتضنت على مر الأزمنة والعصور، النخب الثقافية المقدسية، وكل من حط رحاله في مدينة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، من قامات عربية وإسلامية وفلسطينية، أمثال أحمد الشقيري وخليل السكاكيني، واليوم تختزن في ذاكرتها حكايات من عاشوا داخل حارات المدينة المقدسة، ومروا عبر شوارعها وأزقتها العتيقة.

حجارة لم تندثر

من بين عشرات المقاهي التاريخية في البلدة القديمة بمدينة القدس الشريف، بقي مقهى أبوأحمد صيام عند مدخل سوق العطارين صامداً، فحجارته التي بنيت قبل ١٣٥ عاماً لم تندثر بعد، ومازالت باقية حتى اللحظة وتحتضن كل من يقطن في القدس ويأتي إليها متجولاً.

ويقع مقهى «صيام» على مفرق طرق يؤدي إلى المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة، وتطل إحدى زواياه على سوقَي القطانين وخان الزيت، في مشهد يبعث التأمل والطمأنينة لكل من يفد إلى هذا المكان القديم.

ومازالت أبواب مقهى «صيام» مفتوحة حتى اللحظة، يديره موسى صيام (55 عاماً)، بعد أن ورثه عن والده، وجده المؤسس الأول للمقهى العتيق، فيما يستقبل الزبائن يومياً، خصوصاً من كبار السن، الذين قضوا سنوات عمرهم بين أركانه، إذ يجتمعون داخله يومياً يحتسون القهوة، ويدخنون نرجيلة التنباك العجمي.

ويقول صيام الحفيد، الذي يعمل في مقهى جده منذ عام ١٩٨٥: «إن المقاهي التاريخية أقيمت في البلدة القديمة التي تقع وسط مدينة القدس، فكانت تستقبل التجار والوافدين من كل المناطق، للاسترخاء فوق مقاعد القش، واحتساء القهوة العربية، وقد شهد مقهى جدي، الذي افتتحه في نهاية العهد العثماني، استقبال الكثير من الزوار العرب وأهالي المناطق الفلسطينية، الذين كانوا يتوافدون إلى القدس للصلاة والتجارة وزيارة الأقارب».

ويوضح أن مقهى جده اكتسب أهمية بحكم موقعه، فهو يقع على مقربة من المسجد الأقصى، مضيفاً: «كان جدي في بداية عمله يجلب المياه من آبار الحرم القدسي الشريف، لإعداد الشاي والقهوة، ومشروبات الليمونادة والتمر هندي والعرقسوس، التي كانت تقدم يومياً للزبائن».

تاريخ المقاهي

المقاهي التاريخية في مدينة القدس الشريف، خصوصاً البلدة القديمة، كان لها الدور البارز في تكوين جانب من المشهد الحضاري للمدينة المقدسة منذ نشأتها، فالمقهى الأول الذي شهدته الأزقة العتيقة كان في القرن الـ16، وبقي هذا المشهد حاضراً حتى يومنا هذا ببقاء وجود هذه الأماكن، حتى بعد أن أغلقت أبوابها.

وللحديث عن تاريخ نشأة المقاهي الشعبية والثقافية في مدينة القدس الشريف، التقت «الإمارات اليوم»، المرشد السياحي والباحث في تاريخ مدينة القدس، روبين أبوشمسية، الذي قال إن القدس كانت من بين المدن العربية الأولى التي وصلت لها القهوة في القرن الـ16 في العهد العثماني، في ضوء الحركة العمرانية التي أحدثها السلطان سليمان القانوني.

ويضيف أن أقدم مقاهي القدس على الإطلاق «بيت القهوة»، بالقرب من حمام علاء الدين البوصيري في حارة القرمي، الذي بني عام 1578، وتحول اليوم إلى بيت سكني، ثم بدأ انتشار المقاهي عند أبواب المدينة المقدسة، وأبرزها باب العامود، الذي شهد افتتاح مقهى «محمد باشا» عام١٦٥١، فيما شهد الجزء الشرقي للباب التاريخي وجود أربعة مقاهٍ، وهي: مقهى عارف زعترة، ومقهى علي ازحيمان، ومقهى خليل نجم، ومقهى صيام، وفي أواخر الفترة العثمانية وبداية القرن الـ20 افتتح مقهى منى. ويلفت أبوشمسية إلى أن مدينة القدس شهدت في فترة الانتداب البريطاني انتشار المقاهي داخل أسوار البلدة القديمة وخارجها، منها مقهى النابلسي في عمارة هندية، ومقهى جوهرية في حارة الروس مقابل عمارة صنصور سنة 1918.

حكواتي القدس

لم يقتصر دور المقاهي في القدس على تقديم القهوة لروادها، حيث عقد السكان جلسات ثقافية داخل المقاهي، وحلقات لأعيان البلد للتشاور في قضايا شتى، وبعد ذلك تطور الأمر وأصبحت تقدم لروادها المسرح الشعبي والكراكوز والحكواتي، وأبرز من مارس هذا الدور عبدالنبي حسين، الحكواتي الدمشقي، عام 1799، وسيد جودت الحلي الذي عمل حكواتياً في مقهى بمحلة باب حطة في أواخر العهد العثماني، وذلك بحسب الباحث في تاريخ مدينة القدس روبين أبوشمسية.

ويشير الباحث إلى أنه من المقاهي التي اشتهرت بهذا الدور، مقهى الباسطي في طريق الواد، ومقهى علي ازحيمان الذي تخصص في إلقاء الأدب والشعر، ومقهى الصعاليك الذي أسهم في تأسيسه الأديب، خليل السكاكيني، وكان مخصصاً للسياسة والأدب.

المقاهي احتضنت النخب الثقافية المقدسية، وكل من حطّ رحاله في المدينة.

مقهى أبوأحمد صيام عند سوق العطارين بني قبل 135 عاماً، و«بيت القهوة» في حارة القرمي بني عام 1578.

الأكثر مشاركة