مارث بونارد.. العاشقة المتملكة التي رفضها المجتمع
لكل إنجاز حكايته الخاصة، التي تختلف مع اختلاف صاحبه، ونظرته إلى ما يحيط به، سواء كان لوحة فنية، أو منحوتة، أو تصميماً هندسياً، أو مجموعة أزياء، أو حدثاً غيّر مجرى التاريخ. ومهما اختلف العمل في تركيبته، والخيوط غير المرئية التي شكَّلته، التي لا تراها سوى عين صاحبه، تبقى الشخصية الملهمة هي المعيار الوحيد الذي لا يتغير، وتبقى تلك العلاقة الغامضة والمثيرة للجدل بها هي الشرارة الحقيقية التي تستفز الابتكار.. فمن هنّ الملهمات في التاريخ؟
يمكن لـ«الحب من النظرة الأولى» أن يجعل المرء غير قادر على التركيز إلا على محبوبته، وتحديداً على جميل خصالها، دون عيوبها، كما يمكنه أن يكون سبباً في أن تتغير أحوال المرء وشخصيته واهتماماته تماماً، محاطاً بفضول مثير يغلف نصفه الآخر، وهالة من الإثارة الغامضة، التي غالباً ما تختفي مع الوقت، وهو ما لم يحدث مع الرسام الفرنسي الشهير بيير بونارد.
قد يتجاهل الرجل التفاصيل المحيطة بمن يحب، لكنها لا تصل إلى حد أن يتغاضى الرجل عن التفاصيل الطبيعية، التي عادة ما يعرفها الجميع، الاسم، العمر، الخلفية، لكن ذلك لم يكن مهماً للرسام الفرنسي الشهير بيير بونارد، ففضوله تجاه ملهمته، وعشيقته، وزوجته لاحقاً، لم يكن متعلقاً بمن تكون، بل بتفاصيلها اليومية المعتادة، وحضورها العميق في زوايا يومه، ما جعله عرضة لكذبة استمرت لأكثر من 30 عاماً، كذبة لم يكترث لها كثيراً، فحبيبته الأرستقراطية مارث دي ميليني، ذات الـ16 ربيعاً كانت في الواقع تبلغ 24 عاماً حين التقيا، ولم تكن سوى ماريا بورسا ابنة الخشاب الفقير، الذي نبذته وبقية أسرتها المقيمة في بلدة بعيدة، لتبدأ حياتها في باريس الأنيقة، وتبدأ معها حكايتها مع الرسام الشاب الأرستقراطي المدلل، ذي الشهرة الصاعدة آنذاك.
سرية وغموض
قد يصعب الوصول إلى حكاية مارث دي ميليني، قبل تعرفها الى حبيبها وزوجها بيير بونارد، فهي، وبالرغم من أنها ومنذ اليوم الأول للقائهما قد تجردت تماماً، بهدف رسمها، وكذلك من الرسميات ومقدمات الغزل المتعارف عليها، لكنها لم تعترف بحقيقتها وخلفيتها إلا بعد أكثر من 30 عاماً على علاقتها بالرسام، وتحديداً عند إقدامهما على الزواج، الأمر الذي لم يمنع بونارد من إتمام الزواج، غير مكترث كثيراً بتلك التفاصيل التي تعداها كلاهما تماماً وفضلا الغوص في معرفة ذاتيهما معاً، والانعزال تماماً عن كل ما أحاطهما من تأثيرات خارجية أو دائرة أصدقاء أو عائلة، الأمر الذي كان له التأثير الأكبر والأهم على أعماله الفنية، هو الذي لم يكتفِ منها يوماً، والمهووس بتصويرها ورسمها، وهي المنشغلة دائماً بأمر ما، ولم تلتفت يوماً للعدسة أو ريشة حبيبها، الذي غالباً ما رسمها منشغلة أو مستلقية.
من اللقاء الأول
كل ما يعرف عن مارث هو ما كشفته بعد 30 عاماً لحبيبها، وهو بأنها لم تصغره سوى بعامين فقط، وبأنها ولدت عام 1869، في بلدة سانت أماند مونتروند من أسرة فقيرة، حيث كان والدها يعمل نجاراً، بينما عملت والدتها قابلة، وبأنها تخلت عن ماضيها بالكامل، واختارت أن تبدأ حياة جديدة في باريس الأنيقة والمليئة بالفرص، وجاءت الفرصة عند لقاء الشابين في أحد أزقة المدينة الساحرة.
هو فنان شاب حصد شهرة واسعة في مجال الفن الذي اختاره بديلاً عن مستقبله في المحاماة التي درسها إلى جانب حصص الرسم في أكاديمية جوليان، مثقف، وذو خلفية أكاديمية جيدة، ذكي، وأنيق، ومن عائلة مرموقة، حيث كان والده ذا منصب مرموق في وزارة الحرب الفرنسية آنذاك، وهي، كانت قدره الذي لم يفارقه منذ اللقاء الأول، والذي جاء على شكل فتاة تعمل في تزيين الأقمشة في متجر لإكسسوارات الجنائز.
لا يُعرف تماماً كيف بدأ اللقاء، حيث يقال إنهما التقيا في أحد شوارع باريس، التي كان دائماً ما يميل بونارد لرسمها، والبحث عن إلهامه فيها، وبدأ موعدهما الأول منذ تلك اللحظة التي أخذها فيها، بينما يعتقد البعض الآخر بأنه لحقها حتى مكان عملها ليقنعها بأن تعمل عارضة للوحاته، ولم يحتج بونارد الكثير من الوقت لإقناع مارث للذهاب معه، حيث بدأت حكايتهما الرومانسية منذ تلك اللحظة، ومنذ تلك اللحظة، استطاعت الشابة الغامضة أن تأسر قلب وتفكير الرسام الأنيق.
رفض مجتمعي
لسنوات طويلة عاشها الشابان معاً، كان من المستحيل على بونارد أن يقنع عائلته بالتعرف الى حبيبته، أو الزواج بها، الأمر الذي كان خارج إطار النقاش، إلا أن ذلك لم يمنعهما من العيش معاً لعقود طويلة، حيث استأجرا بادئ الأمر استوديو خاصاً بهما، وانعزلا عن المجتمع وتقاليده، كما أن الرسام الشاب لم يرغب في إفساد سحر علاقتهما بالرسميات، فقد كانت الملهمة المثالية بالنسبة له، هكذا رآها بونارد، وهكذا صورها في لوحاته التي فتحت نافذة شديدة الخصوصية على وجودها معه، وتفاصيل حياته اليومية معها، حيث دائماً ما كانت حاضرة في خلفية لوحاته المحصورة غالباً داخل جدران منزلهما.
مرض وانعزال
لم تتمتع مارث بالصحة المثالية، وبالرغم من عدم وجود أية وثائق حول حقيقة مرضها، سواء العضوي، أو النفسي، إلا أن الحالة، كانت تجعلها بحاجة للاستحمام أكثر من ثلاث مرات في اليوم، كما أنه تسبب أيضاً، إلى جانب شخصيتها غير الاجتماعية، إلى أن تميل إلى العزلة، كما أن الأجواء الخارجية لم تكن تناسب حالتها، الأمر الذي انطبق على بونارد أيضاً، الذي نادراً ما كان يخرج للقاء أصدقائه، أو التنزه، حيث عرفت مارث بشدة تملكها له، وعرف هو باستسلامه ومراعاته لرغباتها الاستحواذية.
للاطلاع على الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.