بساطة الديكور، والاختيار الموفق لمفرداته، أسهما أيضاً في إدخال الجمهور في أجواء المحتوى الدرامي، واستطاع البطاشي توظيف جذوع الأشجار المجدبة في أجواء الحكاية، مدعومة بقطع بسيطة لم تشكل أي عائق لحركة الجموع على الخشبة. تصوير: أحمد عرديتي

«النيروز» العُـــــمانية.. الفلكلور نافس الدراما على الخشبة

شهد مساء أول من أمس تواصل فعاليات مهرجان الخليج السينمائي المسرحي في دورته الأولى، الذي يقام برعاية صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة، حيث استضافت خشبة مسرح قصر الثقافة العرض العماني «النيروز».

وكما سار النهج في العرضين السابقين، حضر العرض جمهور جيد، فيما هيمنت على عناصر السينوغرافيا فيه، وكذلك على المحتوى الدرامي الثيمات التراثية، ما جعل المتلقي أمام ثنائية الفعل المسرحي والفلكلور العماني الذي تبدى هو الآخر عبر سياقات متعددة.

المخرج: سأكرر التجربة

روح إيجابية مميزة سادت فعاليات الندوة التطبيقية للعرض العماني «النيروز»، على الرغم من اشتمالها على انتقادات مباشرة، وعد مخرج العمل جاسم البطاشي يؤكد أنه سيستفيد منها، من خلال تجربة أخرى يكرر فيها العرض، ويراعي فيها تلك الملاحظات التي وصفها بـ«الثرية».

البطاشي أجاب بشكل مباشر عن التساؤل المرتبط بالحضور الطاغي للتراث، ربما على حساب الفعل المسرحي بالأساس، مؤكداً أنه قام بإخراج «النيروز» من أجل الانتصار لهذا الطقس السنوي المرتبط تحديداً بولاية قريات، وبعض المناطق الساحلية في سلطنة عمان.

وقال البطاشي: «شعرت بأن هذا الطقس من الممكن جداَ أن ينقرض، على الرغم من أهميته لدى أهل تلك المناطق، الذين يذهبون من قراهم المختلفة، ليسيروا ساعات طويلة من اجل الوصول إلى الساحل، وتقديم القرابين له ممثلة في الأغصان الخضراء، في مسيرة تتخللها الكثير من الأهازيج والأغاني التراثية». وحول مشكلات الإضاءة أكد المخرج أن ثمة خللاً طارئاً حدث فيها.

غانم السليطي: أطفئوا الأنوار على المخرج

طالب الفنان غانم السليطي بإطفاء الأنوار على المنصة التي يوجد فيها مخرج «النيروز» عقاباً له لتغييبه عنصر الإضاءة الجيدة التي تلاحق الممثلين وتبرز مجهودهم.

وتابع: المخرج ظلم الممثلين وظلم الجمهور بهذه الإضاءة التي لم تبرز الفعل المسرحي على الخشبة، وسيطر عليه هاجس المهرجان، وظن أنه سيكون أكثر براعة إذا انشغل باللوحة الجمالية على المسرح. وتابع موجهاً حديثه للمخرج: «الإخراج هروباً وليس حضوراً، والأولوية لحضور الممثلين على الخشبة، لذلك أنا لم أستمتع بالعرض، الذي كان أفضل ما فيه أصوات المغنين، لكنني شعرت في كثير من الأحيان بأنني أمام أداء فرقة شعبية، وليس فرقة مسرحية».

وثمة تساؤل مُلح يمكن أن يمثل محوراً أساسياً يقود إلى تحليل أعمق لعرض «النيروز» حول من يقود الآخر الفعل المسرحي أم المفردات الفلكلورية في العمل؟ وهو التساؤل الذي يرتبط بجوهر مسرحية «النيروز» التي أنجزتها فرقة مسرح مسقط الحر، لتمثل سلطنة عمان في المسابقة الرسمية لمهرجان المسرح الخليجي بالشارقة، للمخرج جاسم البطاشي، وتأليف عبدالله البطاشي.

هذا التساؤل والسعي إلى الوصول لإجابة حقيقية عنه، يمكن أن يفسرا لنا الكثير من ثيمات العمل الذي نهل من الفلكلور العماني، على أكثر من مستوى، بدءاً من العنوان، ثم المضمون، الذي يدور حول أحد الطقوس الشعبية المعروفة في بعض الولايات الساحلية بعمان، وهو الاحتفال بـ«النيروز»، مروراً بالأغاني والموسيقى التراثية، وليس انتهاء باللهجة المحلية، التي استبدلت بالفصحى في بعض المشاهد.

في المقابل، حضرت أيضاً جميع عناصر العرض المسرحي من نص مكتوب بعناية، ورؤية إخراجية متسقة، وعناصر السينوغرافيا والإضاءة، والتمثيل وغيرها، لكن أيها وصل إلى الجمهور، وما الذي كان يشد المتلقي أكثر، الفلكلور أم الفعل المسرحي الذي توقف عند مظاهر الاحتفالات بـ«النيروز»، على الرغم من الصراع الإنساني الذي تخلل تلك المظاهر، من خلال التصدي لظلم وبطش الشخصية الرئيسة التي فرضت سطوتها على الجميع دون شفقة.

واقع اللوحات التي سعى إلى رسمها جاسم البطاشي تشير إلى انتصاره للحكاية على حساب أكثر من عنصر من عناصر المسرحية، فعلى الرغم من أنه قدم مشهدية مبهرة من خلال الاشتغال على عناصر السينوغرافيا، إلا أن تلك العناصر ظلت أقرب للوحات التشكيلية، رغم أنها انسجمت مع حركة الممثلين على الخشبة، غير أن هذا الانسجام يبدو أنه جاء لخدمة «مشهدية» الصورة الذهنية لدى المخرج لطقس «النيروز»، وهو ما جعل المشاهد يلتحم وجدانياً مع هذه الحالة، وكأنه بصدد لوحة تشكيلية في كثير من الأحيان.

ما يعضد هذه الرؤية هو عدم اهتمام المخرج بعنصر الإضاءة، التي جاءت أقرب إلى مفهوم الإنارة بمعناها الوظيفي، وجاءت بمثابة همزة «قطع» لحالة التحام وجداني بين الممثلين والجمهور، لكن جماليات اللوحة أبقت التواصل على مستوى آخر مرتبط بالصورة الجمالية، وليس الفنية.

اللوحات الغنائية كانت أحد أهم العناصر الجمالية في العرض، سواء من خلال الصوت العذب للمغنين الثلاثة الذين تناوبوا على الغناء، وهم ناصر الناصري وسامي البوصافي وناصر هديب، أو الموسيقى الشعبية المصاحبة وايضاً الأغنية الرئيسة المأخوذة من تراث هذه الاحتفالات «سيح سيح.. سيح نيروزنا»، لدرجة أن الجمهور بالفعل كان يردد تلك «القفلة» كلما هلت مناسبتها أثناء العرض مع المؤدين، ما يعني أننا بصدد حالة من التواصل، ولكن ليس بسبب الفعل المسرحي هنا.

حركة الجوقة أو «المجاميع» أيضاً من العناصر الإيجابية اللافتة في «النيروز»، ومنذ مشهد البداية الذي ينفتح على مهمشين يعانون بأصوات متهدجة، توقظهم صافرة، وتسلب منهم الحركة صافرة أخرى إلى مشهد النهاية التي عادوا فيها إلى حال البداية من خلال الصافرة نفسها، قدمت المجاميع أداء ثابتاً، بما في ذلك المجاميع التي شكلت عبر الأزياء والإكسسوارات شخصيات غير آدمية. بساطة الديكور، والاختيار الموفق لمفرداته أسهما أيضاً في إدخال الجمهور في أجواء المحتوى الدرامي، واستطاع البطاش توظيف جذوع الأشجار المجدبة في أجواء الحكاية، مدعومة بقطع بسيطة لم تشكل أي عائق لحركة الجموع على الخشبة، وعلى الرغم من محاولة المخرج جرنا إلى محتوى يتعلق بالصراع الإنساني من خلال العلاقة بين شخص يسيطر على كل من حوله ومأساتهم، إلا أن الكثير من مفردات العمل كانت تجذب الحضور لمعايشة خصوصية الفلكلور العماني من خلال «النيروز».

الأكثر مشاركة