الساحل الإماراتي.. شاهـــد على العراقة والتطور

تقع المدن الرئيسة في دولة الإمارات على الساحل، وبالقرب من «الخيران»، أشهرها خور دبي والشارقة وعجمان وأم القيوين ورأس الخيمة، تلك الخيران هي بمثابة الأنهار التي تشطر كل مدينة إلى نصفين، وبعض المدن ولدت من رحم الجزر مثل مدينة أبوظبي.

وجود الساحل والممرات المائية الحية والجزر سهّل الاتصال بالعالم الآخر، كما أسهم في انتقال مؤثرات كثيرة من حضارة وتراث الشعوب الأخرى عبر تلك المجاري المائية.

وحسب الدراسات والبحوث ظهرت أول مستوطنات بشرية في الإمارات أواخر العصر الحجري، أي قبل نحو 6000 عام، ووجدت آثار هذه المستوطنات في الجزر القريبة والبعيدة، مثل دلما ومروح، وعلى طول الساحل، وبدأ ارتباط إنسان هذه الأرض بالبحر والتجارة البحرية منذ نحو 4000 عام قبل الميلاد، أي قبل 6000 سنة في عهد حضارة «العبيد» بوادي الرافدين.

معالم

حازت الإنشاءات الضخمة على الساحل مثل قصر الإمارات وحلبة ياس وجزيرة السعديات وبرج خليفة وأبراج الإمارات وفندق برج العرب سمعة وشهرة عالمية واسعة، وجذبت كثيراً من مهندسي المعمار من جميع أنحاء العالم إلى المنطقة بهدف تشييد منشآت مميزة لافتة للأنظار.

وعلى الساحل تقع العاصمة السياسية (مدينة أبوظبي)، والعاصمة الاقتصادية (مدينة دبي)، وبجوارها العاصمة الثقافية (مدينة الشارقة) تتمايز عن كل مدن الشرق بالحداثة المتفردة وبالمشروعات التي تمضي بسرعة مبهرة للعالم. ومدينة أبوظبي تعد اليوم مثالاً عالمياً لفكرة بناء وتطور المدن الساحلية من خلال إعادة النظر في فكرة توظيف الساحل، وإعادة تشكيل وتطور المكان في ضوء الضرورة والرغبة لتنمية المكان وتحقيق الحداثة. هذا الساحل العريق أعطى مدينة أبوظبي الحديثة بعداً إنسانياً وسياسياً وثقافياً، وأسهم في حسن التأصيل العمراني والممارسة الاجتماعية والاقتصادية والتجارية، وفتح مجالاً للبحث عن مرجعيات لتأريخ هذا المكان والغوص في مياه هذا الساحل، لأنه مكان احتضن حضارتها القديمة وشاهد على آثارها وعراقتها وحداثتها.

وتحولت أبوظبي منذ ستينات القرن الماضي وبُعيد اكتشاف النفط إلى مدينة عصرية تحف بها الحدائق الغناء والفنادق الضخمة والمباني الشاهقة، تحقيقاً لرؤية وطموحات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والآن تسارعت خطى التطور فيها حتى أصبحت في غضون عقد من السنوات واحة أعمال مزدهرة تستقطب اهتمام العالم، وتلهم العالم بإنشاء مدن مشابهة.

دبي مفخرة للمدن العربية

على الساحل وفي هدوء تعيد أبوظبي التاريخ من جديد، ودبي تصنع الفرق، إذ يلوح في أفق الساحل البعيد برج خليفة أطول ناطحة سحاب في العالم، عالياً في سماء الإمارات، ليضيف إلى أمجادها الكبيرة مجداً جديداً باعتباره أول مدينة عمودية متكاملة في العالم، ويتجلى فيه تناغم الإبداع الهندسي والعناية بالتفاصيل والقيمة الجمالية الاستثنائية.

ومن هذا الساحل نهض وارتفع برج خليفة الأعلى في العالم، وأضحت دبي مفخرة للمدن العربية وحديثاً لا يتوقف في العالم أجمع، وأصبح ساحل الإمارات يمتلك أرقى وأعلى ناطحة سحاب في العالم، ومارداً معمارياً يضرب بأساساته في جذور الحضارة، ويشمخ فوق أغلى كيلومتر مربع على سطح الأرض في العالم.

وخلال العصر البرونزي (3200-1300 ق.م) لعبت الإمارات دوراً مهماً في التجارة الإقليمية بتصدير النحاس واللؤلؤ إلى إمبراطورية وادي الرافدين، واستيراد العاج والأواني الفخارية والبضائع الأخرى من أفغانستان وإيران ووادي اندس.

ولعب ساحل البحر دوراً رئيساً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وأظهرت حفريات الدور بأم القيوين أن للإمارات روابط مع الإمبراطورية الرومانية خلال العهد المسيحي، في الوقت الذي كان لميناء دبا على الساحل الشرقي روابط تجارية مع الصين.

وخضع الساحل الإماراتي مثله مثل بقية المنطقة لسيطرة البرتغاليين في القرن الـ16، إلا أن الجبال ومناطق الداخل نجحت في الحفاظ على سيادتها وحريتها، إذ يمكن إرجاع فترة قيام الدولة إلى هذه الفترة، وبحلول نهاية القرن الـ16 بسط تحالف قبائل بني ياس بقيادة أسرة آل نهيان التي يتحدر منها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس وباني دولة الإمارات، سيطرته على الجزء الغربي من البلاد، إذ قامت إمارة أبوظبي، ثم انتقلت عاصمتهم إلى جزيرة أبوظبي على الساحل.

وركز أسلاف القواسم، وهي الأسرة التي يتحدر منها حكام الشارقة ورأس الخيمة، أنفسهم بعد فترة قصيرة على الساحل الشمالي من البلاد، وتحدت القوة البحرية للقواسم بحلول أوائل القرن الـ19 سطوة شركة الهند الشرقية البريطانية، ما أدى بعد نزاع متقطع لأكثر من عقد إلى الوجود البريطاني في المنطقة.

واستعاد حكام الإمارات سيادتهم على الشؤون الداخلية بموجب اتفاقيات وقعت مع البريطانيين في عام 1820، واستفادوا من الحماية البحرية البريطانية التي أدت إلى ازدهار مهنة استخراج اللؤلؤ على طول الساحل، وظلت حرفة الغوص بحثاً عن اللؤلؤ عنصراً رئيساً في الاقتصاد المحلي حتى ثلاثينات القرن الماضي عندما تلقت ضربة مزدوجة جراء الركود الاقتصادي العالمي وظهور اللؤلؤ الاصطناعي، وتلاشت بعد الحرب العالمية الثانية بفترة قصيرة، إذ ظهر النفط الذي اكتشف بكميات تجارية عام 1958، وبدأ تصديره بعد ذلك بأربع سنوات، حيث وضع أساس نمو اقتصادي غيّر وجه الحياة في الإمارات منذ ذلك الوقت، وبدأ حكام الإمارات بقيادة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مشاوراتهم التي أدت إلى إنشاء الدولة الاتحادية مباشرة عقب إعلان بريطانيا عزمها الانسحاب من المنطقة في عام 1968، ومن ثم ظهرت دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الوجود وأصبحت كاملة العضوية في المجتمع الدولي في الثاني من ديسمبر عام 1971.

وأجمع الباحثون والمستشرقون من علماء تاريخ وآثار ورجال دين وسياسة على أن تاريخ دولة الإمارات ارتبط ارتباطاً وثيقاً بساحل الخليج. ووجد المنقبون أكثر المستوطنات الحضارية بجوار الساحل الإماراتي، وداخل الجزر. وبنيت على الساحل أهم القلاع والحصون.

وحياة الساحل تعد واحدة من تلك القواعد العريضة التي عجز أن يمحوها الزمن، وقام عليها بناء أمة موغلة في القدم وأمجاد مشيدة ذاع صيتها في أقصى المعمورة، كما أن مناطق الساحل القريبة من البحر والخيران تعد من أهم مناطق الاستيطان البشري بالدولة، وتمتلك كنوزاً حضارية أكدتها تقارير المنقبين. ويرجح المختصون فرضية أن تكون كثير من المدن أو القرى الساحلية القديمة في الإمارات قد غرقت وضاعت معالمها ولا يذكرها التاريخ الآن مثل منطقة الفشت بالشارقة، إذ كانت موجودة وغرقت، كما أن جلفار تأثر جزء من ساحلها بعمق 200 متر بنحر البحر قبل السبعينات، فغرق وانطمر تحت مياه البحر، كما أن منطقة الزورا في عجمان متأثرة بهذا الأمر، وكذلك غناضة بين دبي وأبوظبي، وجزيرة صير بونعير التي غرق جزء منها في مكان تيار الماء.

كما أن المعلومات والدلائل حول جزيرة دلما ترجح أنه قد يكون حولها آثار غارقة، وكذلك جزيرة صير بني ياس، حيث يوجد بها موقع أثري وكنيسة. كما أن اكتشاف منازل عمرها 7000 عام في جزيرة مروح يعد مدخلاً مهماً لفرضية أن هناك مدناً إماراتية قديمة وآثاراً ربما تكون غارقة في مياه الخليج. وحول تاريخ الساحل الإماراتي يقول الأستاذ المشارك في قسم التاريخ والآثار بجامعة الإمارات العربية المتحدة، الدكتور حمد محمد بن صراي «بلا شك أنه في منطقة الإمارات وعموم منطقة الخليج العربي كانت توجد مدن ساحلية وداخلية ازدهرت في فترة من فترات التاريخ، ثم اختفت أو أفل نجمها أو لم يبق إلا بعض آثارها».

ويضيف «أهم المدن الإماراتية الساحلية التي جاء ذكرها حسب الحقب التاريخية سواء في التاريخ القديم أو العصرين اليوناني والروماني وفي عصور ما قبل الإسلام، ثم العصور الإسلامية، ثم أيام البرتغاليين والإنجليز، هي بالترتيب جلفار ودبا وخورفكان ورأس الخيمة والصير».

وفي ما يتعلق بقصة ظهور بعض المدن الساحلية على الخرائط القديمة واختفائها الآن، يوضح «هذا الكلام ينطبق على مدينة زور التي ظهر اسمها على بعض الخرائط البرتغالية في الجزء الشمالي من الساحل الإماراتي، وأرى أن الاسم تحريف لاسم الصير» .

وحول ذكر مدن كثيرة لا وجود لها الآن مثل الوصل وغناضة والفشت؛ يشير بن صراي إلى أن هذه الظاهرة توجد في العالم أجمع، وهي ظاهرة طبيعية تحدث لأسباب كثيرة، منها انتقال طرق التجارة التي كانت تقع عليها مثل تلك المدن، أو تغير أماكن الإنتاج التي كانت تعتمد عليها مثل هذه المواضع، ما أدى إلى انتقال السكان منها، كما قد يكون الجفاف والأحداث الطبيعية الأخرى من الفيضانات والتصحر سبباً وجيهاً، بالإضافة إلى السبب الأكثر واقعية وهو غلبة مياه البحر على السواحل.

ويتابع بن صراي «فمثلاً مدينة جلفار ذكرت في المراجع ودونت في التاريخ، واختفت من الوجود فجأة، وأصبحت لا تذكر، والأسباب معروفة وهي أن هذه المدينة تعرضت على مر تاريخها الطويل لأحداث عسكرية وإدارية وسياسية كثيرة جعلتها عرضة للأفول، إضافة إلى ما أصاب البلدة من تدمير أثناء عمليات التحرير من الاحتلال البرتغالي، كما أن السكان غيروا مكان استيطانهم من جلفار إلى رأس الخيمة الحالية».

الأكثر مشاركة