عن الحب والأوطان الجريحة
المزيد من الشعر يتدفق كل يوم في قاعة قصر الثقافة، ضمن مهرجان الشارقة للشعر العربي في دورته الـ11، ويفيض بأروع الكلمات في أبيات عكست حالات إنسانية وعمقاً وجدانياً لأنامل خطتها، فهذا معلق بوطن جريح، وذاك يبكي على قبلة استدانها في صغره كبر قبل أن يسدها، وآخر يكلم امرأة نثرته في الكون كي تجمعه وهناك من قدم حوارية في حضرة المتنبي، تناول فيها الشاعر ومذاق عشقه.
وبشعر رصين ذي بعد إنساني عميق، اعتلى الشاعر الإماراتي إبراهيم محمد إبراهيم المنصة، رافضاً تقديم أشعاره واقفاً على المنبر المخصص، مفضلاً أن يقعد في حضرة الشعر احتراماً وتواضعاً له، وما إن جلس وارتدى نظارته حتى غاص في انكفاءة على امرأة ووطن، معبراً عن عشق حمل الشوق مطاياه للحب وللموت وللعودة، كل ذلك تحت سترته.
| ندوة نقدية في إطار مهرجان الشارقة للشعر العربي، أقيمت أول من أمس، الجلسة النقدية الأولى التي تناولت محور القراءة الثقافية للنص الشعري، وفي الجلسة الشاعر التونسي الدكتور حمادي صمود، ومن المغرب الدكتور الرشيد بن حدو. وفي سياق المحور، تحدث صمود حول المقاربة الثقافية للشعر في حديثه عن القراءات الثقافية والدراسات والانفتاح النصي على الثقافة بمفهوميها الأوروبي والأميركي باعتبارهما موجودين في علوم عديدة كالدراسات الاجتماعية، والانثربولوجية، والسياسية، وتداعياتها على النقد والفهم والتطور البنائي في المنظومة الشعرية والأدبية بشكل عام، وعملية نقدها المتساوق في فهمه ونقده مع المنظومات الأخرى وسياقات التشكل العام. كما طرح صمود عدداً من أصول المقاربة الثقافية وطرح سؤالاً ملحاً حسب قوله، حول اختصاص الأقوال وترتيبها، بحسب ما يترك فيها، ذلك أن الاختصاص يختلف باختلاف الميدان الذي يجري فيه، لاسيما أن دراسة الأقوال والشعر تتم في ظروف خاصة، إذ يتم تحديد أجناسها بقدر ما يتوافر من تلك الخصائص في كل نص. أما ورقة بن حدو، التي حملت عنوان «البنيات المحتجبة في النص الشعري العربي.. تحليل وتأويل»، فتناولت تفسيراً وتحليلاً وافياً معتمداً على التحليل المنطقي المبني على المعرفة الأكاديمية. |
يقول إبراهيم في قصيدته:
في سترته يندس منكفئاً
يتحرى الكون ويرسمه حسب رؤاه
فالزحمة تبعده عنه
وتفاهات الشارع
تقصيه عن بعض سجاياه.
ويتابع إبراهيم ذلك الوصف والحنين:
حين يعود من الغيبة متشحاً بالشوق
يفتش تحت الجدران المنسية
عن بعض بقاياه
نزق، يوقفه اللحن الغجري
على أطراف أصابعه
يزرع فيه الترحال وطعم البعد
إذا مر به سحرا كالطيف
بما أنسته الأيام
أهازيج البحر وثورته
حين تثرثر في الأسواق الأفواه.
ويوجه الشاعر خطابا حميميا لسيدته في آخر القصيدة، يخبرها فيه بأن لو عرفت ما تحت سترته من بركان لغفت بعينيها الساهرتين العمر، ولاستنطقت السيح الظامئ والسمر، لشهد أن الموقد مازال يعطر بالقهوة والهيل ضفيرتها، واستنطقت الجبل الضارب في الغيم بأنه مازال يصلي سيدة الجبل الشامخ.
ويقول إبراهيم:
هذا فنجانك سيدتي، أسكبه الآن
لتحضر البطحاء
ويزهو البرم الذابل في السمر
العراق الحاضر.
«من لم يذقْ طعمَ العراق، فما لهُ من قهوة الاحزان غير الرائحة، ومن لم يمتْ موتاً عراقياً، تُقَصّـرُ بالنواح على ثراهُ النائحة، ومن ليس يقرأ بـ«العراق»، صلاته منقوصةٌ، إن العراقَ «الفاتحة».
بهذه الأبيات الموجعة التي تشتم فيها رائحة العز والفخر بعراق توشك جراحه أن تندمل، بدأ الشاعر العراقي الشاب عمر عناز قراءة قصيده، ومن زخم الألم والعشق والهيمان صفق الحضور، بل وقف آخرون احتراماً لهذا العراقي المفتون.
قدم عناز شعراً موزوناً مقفى، أبرز من خلاله قدرته الشعرية، منه قصيدة طواف، التي وجهها للحبيبة طالباً منها أخذ مقلته لترى بها ما ينظر إليه من زاوية العشق والحب، قائلاً:
خذ مقلتي وانظر إليّا
واَقرأ شُحُوبَكَ فِي يَديّا
وَأَقِمْ لِذَاكِرَةِ القُرنفُلِ فِي دَمي عُرساً نَديّا
واستَفْتِني مَا بينَ أَنْ
أَو بِينَ أَنْ
واضحَكَ مَليّا
أَرِّخْ على شفتيَّ بَسْمَلةً
تلمّسها نبيّا.
ويتابع عناز في قصيدته، طالباً أن تحرضه على نفسه فهو من علق حرفها في فضاء الروح قنديلاً، ووقد في عينيها قداساً، ويدعوها إلى استباق الحروف للوصول إلى ضفة المعنى سوياً، وتابع:
عَسَلُ القَوافي جفَّ في شَفَتي
فلا تعْتِبْ عَليّا
فأَنا احتِمَالٌ بَعثَرتهُ الرِّيحُ
مجهولَ المُحَيّا
أَسستُ جمهوريةً للمُتعَبينَ بمُقلَتيّا
وأَقمتُ وجهَكَ كَعبَةً في خافقي
لأَطوفَ فيّا.
وفي قصيدة أخرى لـعناز بعنوان «روحي»، تناقضت القصيدة مع ما سبقها من أبيات لقصيدة «طواف»، فها هو الآن يطلب منها أن تروح فقد آلمته الجروح التي خلفتها وأذبلت على أثرها روحه، ليقول الشاعر فيها:
لا توجعي قلبي
وروحي
بي كربلاءٌ من جروح
روحي
فقد ذبلتْ على شفتيك أزهارُ الوضوح
روحي
فإنَّ جرار الدمع في عَينيَّ تؤذنُ بالنضوح
الدمعُ سالَ الدمعُ
جَرَّحَ كل ما بي من سفوح
ولذاكَ، باسم الحب
واللاحب في الوطن الذبيح
باسم المُكَسَّر من شبابيك الغرام
ببيت روحي
باسم المُسطَّر من كلام الغيم في أوراق ريح
روحي
وخلّيني وجمر حرائق الشعر الفصيح.
قصائد قصيرة
بقصائد قصيرة تسمرت عيون على منبر تعلقت به القلوب بالشاعر الأردني راشد عيسى، الذي رحل بعيداً بالحضور إلى شعر خفيف على القلب عميق في المعنى، رسم ابتسامة الحزن تحت شعار المضحك المبكي، منها ما تناول فيه قصة استدانته لقبلة من جارته وحكاية بائعة الورد والأشجار العارية حتى رغيف الخبز المرسوم والمرآة الباكية، كما قدم عيسى مجموعة من القصائد المميزة منها «داية البيت» و«حمالة الحطب» و«يا ليتني».
يقول عيسى في قصائده القصيرة:
في صغري استندت قبلة صغيرة.. من جارتي الصغيرة
بالأمس عندما رأيتها مع ابنها الكبير
بكيت مرتين
فمرة لأنني لمحت دمعتي بعينها
ومرة لأنني كبرت قبل أن أسد الدين.
أما قصة الأشجار العارية فيقول عيسى:
في كل خريف أشعر بالعار
ذاك لأني
لا أملك قمصاناً تكفي عري الأشجار.
حتى بائعة الورد في شعر عيسى طريق:
يمكن ان تسأم بائعة الورد
رحيق الوردة
لكن لا احد يدري
كم تحلم بائعة الورد
بأن تهدى وردة.
من قصائده القصيرة التي تجمع بين متناقضات الحياة، ففيها الحزن والفرح واليأس والأمل والبساطة والتعقيد، يقول في المرآة:
عكست لي المرآة شخصاً غريباً.. لم يكني بل كان شيئاً سوايا
قلت إن المرآة لاشك خانت.. حين أخفت خلف الزجاج صبايا
فبكتني المرآة ثم أجابت.. جانك العمر لم تخنك المرايا.
في حضرة المتنبي، قدم الشاعر المصري أحمد سويلم، قصيدة من باطن الشعر، تحكي بأصوات متفرقة حوارية في حضرة المتنبي، فهذا يصف الكلمات المصفوفة وآخر يتغزل في بحر القصيدة، وذلك آخر يصف القوافي، يقول سويلم في قصيدته:
في صيف الكلمات
ازدحمت في عيني شموس
وتوارت خلف خطاي
متاهات وأساطير
أتساءل عن قدر الشاعر
حين يهش االصمت عصاه
فيطوي في قبضته عطش الكلمات
فيرد صوت آخر:
هو البحر غص فيه إذ كان ساكناً
على الدر.. واحذره إذا كان مزبدا
تظل ملوك الأرض خاشعة له
تفارقه هلكي وتلقاه سجدا
وهكذا تتسلسل القصيدة حتى يصيح صوت آخر ليختم أبياتها:
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذ أصابني سهام
تكسرت النصال على النصال